
المتابع لأوضاع الأجهزة الحكومية في بلادنا يكتشف العديد من الثغرات التي لو أحسن التعامل معها لأراحت المتعاملين معها واستراحت الأجهزة الحكومية نفسها. من أهم ما تعاني منه هذه الدوائر الحكومية عدم قدرتها على التفاعل الإيجابي مع محيطها السريع التغيير. ولقد كشفت لنا الأحداث الأخيرة وبالذات "كارثة جدة" مدى هشاشة هذه الأجهزة في مواجهة الأزمات، وكشفت لنا أن مواطن الخلل تتجلى في "الموظف الحكومي" الذي لا يمتلك الأدوات ولا الأفكار التي تمكنه من مواجهة متطلبات عمله.
ومن المشاهدات اليومـية أن "الموظف الحكومي" (إلا من رحمه الله) يستـغل القصور في المحـيط التنظيـمي ليحقق راحته ومبتغاه وأمـنه الوظيفي من الوظيفـة الحكومية والتي يحـلو للكـثير تسميتها بـ"البقرة الحلوب".
لماذا؟ لأن معظم أنواع التقاعس في العمل من قبل الموظف يمكن تبريرها وتكييفها نظاميا وبشكل لا يصيب الموظف بأي أذى.
هدف هذه المقالة ليس تعداد مساوئ أو مزايا الموظف الحكومي لأن هذا الموظف ما هو إلا نتاج محيطه التنظيمي المشلول الذي أضحى جمادا لا يقبل التزحزح والتطور.
انتشال هذا المحيط التنظيمي من حالة الشلل يكمن أولا وأخيرا في الرفع من شأن هذا الموظف والرقي به ليستطيع خدمة أهداف الجهاز الحكومي. أجهزتنا الحكومية وللأسف أصبحت مكبا لكل ممارسات المجتمع السلبية حتى أصبحت مكاتب وممرات لا تتماشى فيها إلا الأجسام المتثاقلة دون وعي وإدراك منها بأهمية دورها تجاه خدمة المواطن والمجتمع. وما زاد الطين بلة عدم سعي الدوائر الحكومية للرقي الحقيقي بهذا الموظف بل جل ما قامت به هو زيادة أعبائه وتقفيل السبل عليه حتى صار خبيرا بالمخارج النظامية التي تبقيه في واحة أمان وبأقل إنتاجية ممكنة.
وليس غريبا، والحال هكذا، أن يبدي ديوان المراقبة العامة انزعاجه مما يصدر عن المنظمات والهيئات الدولية من تقارير خاصة بتصنيف الدول وفقاً لأدائها في مجالات التنمية (الوطن 21 مايو 2008).
الواقع الحالي، وبعد بعض الأحداث، يشير إلى أن المجتمع السعودي قد صعق وبدأ يتشكل لديه "وعي وإدراك" جديدان تجاه الفساد وبدأت ضمائر كثير من الموظفين في الاستيقاظ لأنهم لم يكونوا على علم ووعي بأبعاد ومضامين سلوكياتهم وتصرفاتهم وتجاوزاتهم في الإدارات الحكومية. ولدينا الآن فرصة ذهبية للاستثمار في القبضة القوية التي تلوح بها الدولة حاليا تجاه الفساد والإفساد لمد الأيدي لكافة الموظفين من خلال ابتكار آليات وتنظيمات جديدة تخدم الموظفين الجادين والمتفانين في أعمالهم وعلينا أن نثبت فعليا بأن لكل "مجتهد نصيب"، وأن نثبت بأن يد الدولة والنظام ستطال كل فاسد ومفسد.
التنظيمات الجديدة يجب أن تصب في إعادة تأهيل الموظف الحكومي لمواجهة التحديات الحالية والقادمة. الموظف الحكومي لا تكفيه الدورات التدريبية الوقتية بل هو بحاجة إلى إعادة صياغة وتشكيل من خلال برامج تنفيذية تصممها الجامعات ليس هدفها إصدار الشهادات بقدر ما هي لانتشال هذا الموظف من بيئة متدنية الإنتاجية إلى بيئة احترافية عالية الإنتاجية قادرة على تشخيص مواطن الخلل ومواجهته بأفضل ما لديهم.