العربية

111

كارثة جدة ومشاعر المواطن



يبدو أن كارثة الأمطار والسيول في جدة لن تمر مرورا سهلا أو لينا وخاصة على المتورطين في تسببها. المجتمع كله يقف اليوم مترقبا لقرارات «لجنة تقصي الحقائق» التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله. في هذا الصدد، قال المستشار في الديوان الملكي الشيخ عبدالمحسن العبيكان «إن التشهير في مثل هذه الحالات مطلب ملح، لأن من ساهم في الكارثة ارتكب ذنبا مركبا، بإهدار المال العام وتدمير المنشآت وإزهاق الأرواح». محذرا من أن مسألة تأجيل معاقبة الفاسدين أو عدم التشديد عليهم في الأحكام قد يضاعف الفساد. عكاظ (الخميس 22/12/1430 هـ).
لقد سمع الكل بوجود الفساد بين أضلعنا، لكن الكثير ما زال غير مصدق لحجم نتائج هذا الفساد الهائلة والتي انتشرت كالنار في الهشيم في الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص والمجتمع برمته. اليوم يقف كل مواطن ولسان حاله لسان كل مكلوم فقد عزيزاً عليه في هذه الكارثة... فقد ممتلكاته... ليس أمامه إلا العيش على تبرعات الحكومة والمجتمع. لقد فقد الناس اليوم ثقتهم بالأجهزة الحكومية التي لم تنشأ أصلا إلا لخدمتهم. فجأة أفاقوا من النوم ليجدوا أن هذه الأجهزة الحكومية قد وقعت فريسه أهواء من يعملون فيها. الكل رأى الصور ومقاطع الفيديو على شبكة الإنترنت، والكل يشاهد اليوم تبادل الاتهامات بين مسؤولي الأجهزة الحكومية والكل يقرأ الصحف وهي تحمل تنصل المسؤولين الحكوميين من مسؤولياتهم. أجواء فقدان الثقة في الأجهزة الحكومية ذات أبعاد خطيرة للغاية على كل أفراد المجتمع وعلى الكيان الذي هو وطننا ومآلنا جميعا.
لقد كتب الكثيرون عن الأجهزة الحكومية وما زالوا يسردون المخالفات التي لا تجد الردع بسبب الاستثناءات والواسطة والسلبية واللامبالاة حتى وصل شعور المواطن اليوم إلى أن الجهات الحكومية تعمل بمحسوبية ولا تحميه بالدرجة الكافية. هذا الشعور لم يرصد اليوم فقط وإنما بدأت بوادره قبل الكارثة ومنذ زمن بعيد حيث كنا نلمسها يوميا في تعاملاتنا اليومية وفي كل شؤون حياتنا... حتى في قيادتنا للسيارات والتي أصبحت مؤشرا صارخا لفقداننا احترام أنفسنا ومظهرا مخجلا لصورة هذه البلاد وأقل صورها أن الطرق العامة أصبحت مرتعا للجميع يقودون سياراتهم كما يشاؤون دون اي اعتبار لنظام أو قانون.
سلوكياتنا السلبية التي نراها اليوم ما هي إلا نمط من الفكر التشاؤمي الذي تلبسنا وانعكس على حياتنا، وهذا السلوك قد وجد طريقه، حسب مشاهداتنا اليومية، إلى الأفراد العاملين في الحكومة والقطاع الخاص وانعكس على أداء الأقسام وفرق العمل والأجهزة الإدارية ككل. هذه السلبية التي نلمسها ما هي إلا تراكم السلبيات الإدارية التي تفشت كالفيروسات وتسببت في مشكلات تدني الإنتاجية وهبوط معنويات الأفراد العاملين. واليوم يدفع كل مواطن ثمنا باهظا للسكوت على تفشي الفساد في أجهزتنا الحكومية.
معنويات العاملين في هذه الأجهزة تؤثر مباشرة في إنتاجيتهم وليس هناك حل سوى أن نستعيد قدرتنا على إدارة العجلة الإدارية من جديد من خلال الوقفة الجادة التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين أدامه الله في وجه الفساد ومنع انتشار ثقافته البائسة التي تهز أركان المجتمع وأمنه وتتسبب يوميا في إقصاء الجادين الأكفاء وتشريدهم في الشوارع عاطلين عن العمل. لا شك عندي اليوم أن هذا الفساد هو الذي أوجد البطالة وهذا الفساد هو الذي رفع معدل الجريمة والسرقات والمخدرات في مجتمعنا.
إن عدم خضوع كل موظفي الأجهزة الحكومية للمحاسبة كفيل بتقاعس المديرين ومن فوقهم ويؤدي إلى وأد روح الابتكار والإبداع والمبادرة، وهذا ما يعطي الموظف الانطباع بأن منصبه قد حصل عليه بحكم صلاته وقراباته وليس بجهده أو بشهادته، وتفتح الأبواب واسعةً لشعور كل فرد في المجتمع أن النظام والقانون لا يطبقان على الجميع نتيجة التمايز والاستثناءات. لقد قامت السماوات والأرض على العدل ولا يمكن انتظام الأحوال واستقرار حياة الناس إلا بهذا العدل. أما وقد صدرت الأوامر الملكية بإنشاء «لجنة تقصي الحقائق» فعلينا استخدام الزخم الذي نتج من هذه الكارثة لتقوية أنظمة المساءلة والشفافية في الحكومة والمجتمع وتطوير الإجراءات والنظم الإدارية الخاصة بأداء الأعمال واختيار العاملين والمساواة أمام القانون ومحاسبة المفسدين. اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحبه وترضاه.