العربية

111

كارثة جدة وأخطاء منظومتنا



من الطبيعي أن تتوالى اللطمات على الأجهزة الحكومية كلما حدثت كارثة لنا. كلنا ما زال يذكر غضبة المواطنين من قصور الأجهزة الحكومية في مواجهة كارثة الأسهم. اليوم كارثة أخرى كشفت لنا المزيد من نقاط ضعفنا. كارثة السيول التي هاجمت مدينة جدة وذهب ضحيتها العشرات من الأفراد. بالطبع لا مقارنة بين الكارثتين لأن الأرواح البشرية أهم من أموال الدنيا كلها... لكن نقاط الضعف التي نكتشفها كل يوم في أنظمتنا يجب أن تكون الدافع الرئيس لمسؤولي الحكومة لتصحيح وتطوير الأنظمة التي نعمل ونتحرك جميعا في إطارها.
ومن حسن الحظ أن وسائل الإعلام والفضائيات التي شكونا مرارا من اختراقها لبيوتنا هي نفسها التي تقوم بتوعيتنا بالفروق بين وطننا والأوطان الأخرى وتجعلنا دوما نقارن أنفسنا بأفضل الدول (وهذا ليس عيبا في حد ذاته) وتكشف لنا قصور أداء أجهزتنا الحكومية. بالرغم من ذلك، وطالما أن القصور في الأداء قد تكشف لنا فلعله من المناسب أن نقف وقفة نحاسب فيها أنفسنا حكومة ومجتمعا لأنني أجد أن المسؤول عن كارثة غرق العشرات من البشر ليس الأجهزة الحكومية وحدها بل نتحمل كلنا كمجتمع مسؤولية هذه الكارثة.
لماذا؟ لأن قصور الأجهزة الحكومية في أدائها لم يأت من فراغ وإنما طفا على السطح نتيجة تفاعل العديد من العوامل أهمها أولا، الموظف الحكومي الذي لم يأت من كوكب آخر بل هو تمثيل صادق للمجتمع بكل خصائصه وسماته. هذا الموظف يعمل في بيئة تنظيمية غير مثالية يشوبها الكثير من السلبيات مثل قلة الانضباط وقلة التدريب والمجاملات إضافة إلى أنظمة ولوائح وإجراءات وخطوات تفتقر إلى الصيانة الدورية. هذا الموظف أيضا غالبا ما يعمل في ظل إمكانات وموارد مادية محدودة لا يتم توزيعها على الإدارات بشكل يفي بقيام كل موظف بأداء واجبه.
هذا الموظف الحكومي كما أسلفت لم يأت إلا من هذا المجتمع بكل خصائصه الإيجابية والسلبية... مجتمعنا له فكر وثقافة وعادات وتقاليد تستدعي من الموظف الحكومي التعامل مع شرائحه بأشكال مختلفة والتي من ضمنها الانصياع لرغباته. إن نظرة سريعة لواقع تفاعل المجتمع مع الأجهزة الحكومية، دون الدخول في شرح مستفيض، يشير إلى قصور في المنظومة كلها سببه تفشي وسيطرة ثقافة وقيم دخيلة علينا أكلت الأخضر واليابس وتمكنت من مقدرات هذا الوطن. إنها ثقافة عدم تقدير لهذا الوطن... إنها ثقافة اللامبالاة تجاه الآخرين وتجاه الأجيال القادمة... إنها ثقافة عدم تقبل الرأي الآخر وتصنيف الآخرين بشكل لا يخدم وحدة هذا الوطن.
لقد كان لتفشي هذه الخصائص في المجتمع أن انتقلت إلى الأجهزة الحكومية بفعل المواطن نفسه الذي نقلها إلى مكتبه الحكومي. هذه الخصائص ساهمت بشكل جائر في تفشي الواسطات والمحسوبية وتبادل المصالح والخلل المالي والإداري بأشكاله المختلفة حتى أصبح في كل جهاز حكومي طابور خامس لا هدف له إلا إجهاض مساعي الدولة الإصلاحية.
اليوم، وقد حدث ما حدث... وهل يكفي القول بأن "المشكلة في جوهرها معقدة بسبب نشوء أحياء في جنح الظلام في بطون أودية ومجاري سيول مثل قويزة والنخيل". وهل يكفي القول بأن ما حدث من غرق وهدم جراء السيول كان فوق مقدرة وطاقة إدارة الدفاع المدني كأزمة وكارثة بيئية فاقت كل التوقعات. إن قصور الأداء الحكومي في نظري يتمثل في السكوت على شتى أنواع المخالفات التي يقوم بها المواطن وفي حالتنا هذه البناء في مناطق معرضة لمثل هذه الكارثة. إن إدراك المواطن لخطر مثل هذه المواقع المنخفضة دوما محدود وثقافة المواطن وسلوكه يدفعانه دوما إلى التملص والالتفاف حول الأنظمة.
اليوم ندفع البلايين لمعالجة آثار هذه الكارثة كان من الأفضل أن ندفع جزءا منها فقط لو قامت الأجهزة الحكومية بتشديد قبضتها على مخالفي الأنظمة من المواطنين وموظفي الحكومة.
أعتقد أنه قد حان الوقت لكي تقوم الدولة بتسريع عجلة الإصلاح والتأكيد عليه للخروج بتنظيمات حكومية قوية وبموارد بشرية حكومية مسلحة بفكر وتطلعات تصب في خدمة المواطن قبل كل شيء.
الموظف الحكومي يجب أن يكون مثلا يحتذى به لا معولا من معاول الهدم. رحل ضحايا هذه الكارثة شهداء إلى بارئهم عز وجل... وحان الوقت لكي توقظ صدمة هذه الكارثة كل فرد في هذا المجتمع ليراجع نفسه سواء كان موظفا حكوميا أو خاصا أو تاجرا أو صاحب شركة أو حتى عاطلا. مراجعة النفس مطلب شرعي لأنها تدلنا على مواقع الخلل لنقوم بالتصحيح لاسيما أن لنا فيما يدور في البلدان الأخرى من حولنا من عبر كثيرة. الوطن غالي علينا جميعا وهو ملاذنا الأول والأخير وهو وطن يجب أن نحميه ونصونه لا أن نفتته بأنفسنا. إن مسؤوليتنا مزدوجة تجاه وطننا هذا... مسؤولية تجاه مجتمعنا المحلي ومسؤوليتنا تجاه موقعنا وتمثيلنا لبلاد الحرمين الشريفين. اللهم وفقنا لخدمة هذا الوطن لأن في خدمته ارتقاء لجميع المسلمين.. يارب العالمين.