العربية

111

السعودية ... عين على التنمية وأخرى على التحديات



في هذا اليوم ... "يوم الوطن" قررت الخلود إلى نفسي وتركت العنان لذاكرتي أستحضر صورا من الماضي. رجعت إلى الوراء خمسة وخمسين عاما لزيارة إنجازات بلادي. الحكم على إنجازات هذا الوطن، في نظري، يستلزم معايشة هذه المنجزات وفهم سمات مجتمعنا وطبيعة نظامنا ودرجة تعليمنا وثقافتنا وإمكاناتنا وكثير من الأمور الأخرى. وهنا لا أدعي أنني على معرفة كبيرة بكل هذه التفاصيل. لكنني أقول إنني عندما وعيت هذه الدنيا كانت بلادي لا تعرف الإسفلت أو شبكة المياه أو الكهرباء أو التليفون أو السيارة أو المستشفى. وبناء عليه يحق لي أن أحكم على تجربة بلادي التنموية لأنني عشتها وشاهدتها تتطور يوما بعد يوم.
عايشت تجربة التنمية في بلادي وذقت حلاوتها ومرارتها ... ذقت حلاوة الأمن والتعلم والصحة والبناء والتطور في وطن بدأ من الصفر بمجتمع غير متعلم وبدون بنى تحتية وبموارد مالية شحيحة تطورت إلى موارد متذبذبة من مصدر وحيد هو البترول .... ذقت هذا وأنا أعيش في واحة حدودها منطقة مضطربة تتوالى فيها الأزمات والكوارث والحروب... واحة جل تفكير قادتها أمن هذه الواحة وسكانها.
مراحل عديدة من التنمية مرت بها بلادي ... كل مرحلة لها تحدياتها ومشاكلها الخاصة ... تارة تذبذب سعر النفط وتارة إفرازات العمالة الأجنبية وتارة الحرب وعدم الاستقرار في المنطقة وتارة توظيف المواطن وتارة مكافحة الإرهاب. كل هذه التحديات كانت لتهز الجبال، لكنها لم تهز تصميم الدولة على تقديم الإنجاز تلو الإنجاز. التغيير والتطور أصاب كل أوجه الحياة في بلادنا. ففي السبعينات الميلادية شهدنا ظاهرة غريبة يقول الخبراء إنها لم تحدث في العالم كله ... بلد من لا شيء .. تم تمديد خطوط الكهرباء والمياه والهاتف ورصف الشوارع في وقت واحد ... بلد كانت تتسلم المؤسسات التعليمية فيه مدرسة جديدة كل يومين في مكان ما من المملكة التي يوازي حجمها حجم قارة كاملة.
لا زلت أذكر سنوات السبعينات من القرن الماضي عندما نصح كثير من الاقتصاديين الأمريكيين الإدارة السعودية بعدم الاستثمار في مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين والاكتفاء باستثمار عائدات البترول في أمريكا. بالطبع رافق هذه النصيحة الكثير من الضحكات حول الكيفية التي ستمكن حفنة من البدو من بناء وتشغيل هاتين المدينتين الصناعيتين. لم تقتنع الإدارة السعودية بنصائح الأمريكيين وباشرت هذا المشروع الذي نافس منتجات شركات أمريكية (مثل شركة دو بونت) في الهند على سبيل المثال لا الحصر.
إنجازاتنا لم تعد جذابة لنا اليوم. لماذا... ؟ في نظري ... لأن حجم التغيير في المجتمع السعودي كان كبيرا وفريدا من نوعه . هذا التعليم والانكشاف على العالم وأسباب الراحة والرفاهية التي دخلت الكثير من بيوتنا رفعت من سقف توقعاتنا وجعلتنا نطالب بمستوى خدمات لا توجد إلا في دول متقدمة. سقف التوقعات هذا يشكل اليوم ضغوطا كبيرة وتحديا تاريخيا ومفصليا للدولة. اختلفت الأزمان والأجيال وما كان مرفوضا اجتماعيا في السابق أصبح مطلبا حيويا اليوم. في فترة سابقة كانت النظرة للتلفزيون والفضائيات وشبكة الإنترنت مختلفة، أما اليوم وبعد أن اكتشفنا أنه يمكن تسخيرها لخدمة قيمنا الإسلامية تهافتنا عليها. في فترة سابقة كان تعليم البنات يواجه بالرفض، أما اليوم فالمطالبة تشتد لفتح المزيد من الفرص التعليمية للبنات. القائمة تطول .. لكن الثابت هنا أن قيادة هذه البلاد كانت ومازالت تسير بخطى ثابتة وبدون كلل ممتطية رياح التغيير بحرفية فائقة.
وطننا اليوم جديد ... لكنه امتداد لوطننا بالأمس .. وطننا اليوم يتشكل بقيادة احترافية بفكر جديد وعزيمة في مواجهة تحديات مرحلة صعبة تعولمت فيها اقتصاديات الدول وتغيرت فيها التقنيات والأساليب ... مرحلة جديدة من الانفتاح على المستقبل ... مرحلة جذب استثمارات أجنبية ... مرحلة دولة ذات وزن وثقل على المستوى العالمي ... مرحلة حكومة إلكترونية ... مرحلة جيل جديد مسلح بمناهج تعليمية ذات تقنية عالية ... مرحلة بيئة عمل تنافسية .. مرحلة أن نكون أو لا نكون. وطننا اليوم، كما في الأمس، محفوظ بحفظ الله.