العربية

111

الحرب القادمة.. حرب الوظائف الجيدة

قراءة الأرقام فن لا يجيده إلا المتخصصون، ومؤسسة جالوب Gallup واحدة من الشركات الرائدة في مجال استطلاعات الرأي العام والبحوث والاستشارات التنظيمية. هذه المؤسسة تعمل حاليا تحت قيادة جيم كليفتون Jim Clifton رئيس مجلس إدارتها ورئيسها التنفيذي. حققت مؤسسة جالوب في السنوات الماضية توسعا كبيرا من شركة مقرها الولايات المتحدة إلى منظمة عالمية مع 40 مكتبا في 30 دولة ومنطقة. مقالتي هذه حول كتاب أصدره مؤخرا "جيم كليفتون" بعنوان "حرب الوظائف القادمة" والذي استند فيه على خبرة أكثر من 75 سنة لشركة جالوب في استطلاعات الرأي حول العالم. 
محور الكتاب أن حربا جديدة ستدور رحاها في القريب حول "الوظائف الجيدة". يقول كليفتون إن ليس هناك شيء سيصلح أحوال العالم الذي نعيشه سوى طرح 1.8 مليار "وظيفة رسمية" جديدة. وهنا يفرق كليفتون بين الوظائف "الرسمية" و"غير الرسمية"، ويقول إن قيادات العالم يجب أن تعي ذلك وأن تفرق بينهما، لأن الوظائف غير الرسمية لا تدوم كثيرا ولا تدر عائدا جيدا ومستمرا وتسهم مباشرة في ضرب عمق الاستقرار النفسي للبشر وانسداد الأفق وضخ المزيد من أعداد البؤساء وفاقدي الأمل.. وفي نهاية المطاف معاناة بشرية حول العالم. ويضيف أن الوظائف الموجودة في الدول النامية وبالكاد تؤمن حد العيش والكفاف ولا تنتج طاقة اقتصادية تستفيد منها مجتمعاتهم. 
حسب الإحصائيات التي أوردها كليفتون يقول إن الـ 7 مليارات فرد الذين يعيشون على وجه الأرض منهم 5 مليارات فرد أكبر من 15 سنة، ومن هذه الـ 5 مليارات هناك 3 مليارات يعملون أو يرغبون في العمل. المشكلة – كما يراها كليفتون - تكمن في أن هناك حاليا حوالي 1.2 مليار "وظيفة رسمية" حول العالم، مما يجعلنا بحاجة إلى 1.8 مليار فرد يحتاجون إلى وظيفة جيدة (رسمية) لإصلاح مستوى معيشتهم.. وإن لم نفعل ذلك فإن هناك إمكانية حدوث قلاقل وعدم استقرار وقلق اجتماعي كبير جدا بين الـ 1.8 مليار فرد. هذا الرقم يقارب ربع سكان العالم ممن سيشعلون حربا للحصول على "الوظائف الجيدة".
ندرة هذه الوظائف اليوم ستكون سببا رئيسا في اندلاع المشاكل والمجاعات والتطرف واتساع الفجوة وعدم التوازن. ويقول إنه وجد - من خلال استقصاء الرأي العام العالمي - أن الجياع من سكان العالم ـ يفكرون في أشياء تختلف كثيرا عما تفهمه وتذكره معظم الحكومات والوكالات والمنظمات غير الحكومية.. وفي الوقت الذي يسارع فيه العالم المتقدم لمدهم بالغذاء والدواء، فإن معظمهم يشعرون أن الحل الحقيقي يكمن في إيجاد "وظائف جيدة" لهم. وبناء عليه، يري كليفتون أن مسؤولية جديدة قد أضيفت إلى قادة الدول، بحيث يكون "توفير وظائف جيدة" مهمتهم الأولى وهدفهم الرئيس، لأنها أصبحت المعيار الحقيقي لنجاح القيادات. ويرى أن المستقبل القريب لن يكون فيه مكان للقيادات التقليدية التي تعتمد وترتكز على السياسة والقوة العسكرية والقيم، ولابد من قيادات تجيد التفكير في خلق "الوظائف الجيدة".. الفشل في ذلك يعني مجتمعا فاشلا ودول فاشلة. 
بعض المجتمعات اليوم لم تعد مقتنعة بما يدور حولها.. هم فقط يريدون وظيفة جيدة تؤمن لهم حياتهم وعافيتهم واستقرارهم النفسي. ويؤكد كليفتون أن العلاقة بين الناتج المحلي الإجمالي ونمو الوظائف علاقة جذرية... إنها كالعلاقة بين الدجاجة والبيضة الواحدة تصنع الأخرى.. ودون واحدة منهما تموت الأخرى. 

الأستاذ الجامعي وبرجه العاجي

كثير من الناس يتهمون أساتذة الجامعات بأنهم يجلسون في أبراج عاجية بعيدين عن بقية شرائح المجتمع. مصطلح "البرج العاجي" دفعني للبحث عنه في شبكة الإنترنت التي أصبحت ملاذا تقوقعيا لكثير منا. وجدت أن هذا المفهوم قد ابتدعه شاعر وناقد فرنسي يدعى "سانت بيف" في قصيدة له نشرت في عام 1837 واستخدم هذا المصطلح ليعكس انعزال ووحدة الفنان أو الفيلسوف عما يحدث من مشاغل ومشكلات على أرض الواقع. 

أنا لا أنفي صفة الانعزال عن أستاذ الجامعة، ولكن هذا الانعزال في نظري له مسببات في بلادنا تختلف عن المجتمعات الأخرى. أقول إن كثيرا من أساتذة الجامعات في بلادنا لم يختاروا أن ينعزلوا في هذه الأبراج طواعية، وليس هذا للدفاع عنهم. المسببات كثيرة وسأتحدث عن واحدة منها. إنهم - في نظري المتواضع - يدفعون ضريبة ما تلقوه من علوم أثرت على طريقة تفكيرهم وتحليلهم للأمور من حولهم. مكثوا سنوات عديدة في الغربة بين دفات الكتب غير عالمين بالصدمة التي ستحدث لهم عندما ينتقلون إلى واقع مجتمعاتهم.
معظم أساتذة الجامعات اليوم قد درسوا في خارج المملكة وبالذات في الولايات المتحدة وأوروبا. مجتمعات هذه الدول قد مرت بها عشرات ومئات السنوات من العمل والجهد الجاد والتنظيم والإدارة والتقنية حتى بلغوا ما بلغوه من تقدم لم تستطع حياله مجتمعاتنا النامية إلا أخذ وتبني كل تقنياتهم. الشريحة التي تعي تفاصيل ومضامين التحولات المحلية والعالمية في كل صغيرة وكبيرة هي شريحة أساتذة الجامعة كل بحكم خبرته وتخصصه. أعداد كبرى من شرائح المجتمع الباقية لا تعبأ بقضايا المجتمع، وأغلبهم يتحدث عن التقدم الموجود في بلاد الغرب دون أن يرهق فكره بالأسباب التي جعلت الغرب على ما هم عليه ونحن على ما نحن عليه.
أستاذ الجامعة - كل بحكم خبرته وتخصصه – الوحيد الذي يعي مضامين هموم مجتمعه. أستاذ الاقتصاد مثلا على علم بتفاصيل ظروفنا المحلية وأسباب حالات الإشكالات الاقتصادية التي نعيشها، وكيفية معالجتها وكم من الوقت تستغرق لتصحيح الأوضاع.. وأستاذ الإدارة يعلم تأثير المحسوبيات والواسطة على النظام الإداري والمجتمع بصفة عامة. كذلك أصحاب التخصصات الأخرى كل شخص يستطيع أن يخوض في تخصصه الذي يعرفه. أنا لست متخصصا في العقيدة أو الحديث أو الأدب العربي أو الأميركي أو تصميم الكباري أو مسارات القطارات أو إشارات المرور أو تصريف مياه السيول أو أسباب انقراض الحشرات أو طرق القضاء على الأمراض أو التخلص من عوادم السيارات أو إعادة استخدام البلاستيك. العلوم كثيرة ولها متخصصوها، الذين ـ كما أسلفت ـ على دراية واسعة ويحملون تفاصيل همومها بالنسبة لبلادنا.
معظم القضايا والمشاكل التي نعاني منها تحتاج إلى عدد من الخبراء المتخصصين ولهذا تلجأ الدولة للجامعات مخزون الخبرات للبحث عن حلول، وفي كثير من الأحيان لا تكفي خبراتهم فيطلبون خبرات إضافية خارجية. معظمنا وللأسف الشديد يتحدث عن السلبيات في بلادنا وكأنه متخصص في كل فروع المعرفة غير مدرك لكافة أبعاد كل مشكلة وعلاقتها بالعوامل الأخرى والتي في كثير من الأحيان تكون متجذرة في خصائص وسمات مجتمعنا.
في نظري المتواضع أن هموم معرفة الأشياء على حقيقتها سبب رئيسي للانعزال والتفرغ لما هو مهم لهذا المجتمع، وخاصة عندما يكون البون شاسعا بين "قيم" الأستاذ الجامعي والقيم السائدة في المجتمع.
اليوم أنا موقن أكثر من الأمس بحاجة مجتمعنا للتعمق أكثر في كافة العلوم المتاحة لنا لننهض ببلادنا. الخيرات في بلادنا لا تحصى وما زالت تنتظر من يحسن قطفها. التعليم وحده يرفع الأمم، والأمم المتعلمة لا يخشى عليها، وأمامنا فرص متاحة للتعلم لم تتح لمجتمعات أخرى مثل ما وفرتها الدولة لدينا. أحيانا أتساءل.. أين من يريد أن يتعلم؟ ولا أجد من حولي إلا الباحثين عن ورق الشهادات. يقول المفكر الإداري إيريك هوفر: "في وقت التغيير الجذري القاسي يكون المتعلمون هم من يرثون المستقبل. أما غيرهم فيجدون أنفسهم مستعدين للعيش في عالم لم يعد له وجود".
المصدر:  http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=10794 
صحيفة الوطن:  الثلاثاء  8 مايو  2012

فرص جديدة للجامعات السعودية

انتهت في الرياض فعاليات المعرض والمؤتمر الدولي الثالث للتعليم العالي 2012 الذي نظمته وزارة التعليم العالي. ولفت نظري حديث ورؤى عدد من خبراء ومسؤولي التعليم العالي من خارج المملكة. 
منذ أربعة أشهر كتبت مقالة بعنوان "بناء الحجر يختلف عن بناء البشر"، تحدثت فيها عن السهولة النسبية لبناء المباني والتجهيزات لطلاب الجامعات مقارنة بالصعوبة التي تكتنفها عملية تكوين الخريج السعودي الذي يدعم بشكل فعال عملية التنمية. 
عملية توافق مخرجات التعليم العالي مع متطلبات التنمية قضية كبيرة لا يمكن للجامعات أن تتنصل منها. لا يمكن أن نجد أي وزارة أو جهة حكومية لديها الكم الهائل من الخبرات وفي مختلف التخصصات وتحت سقف واحد إلا في الجامعات. إذا صلحت الجامعات صلح باقي الأمور.
الجامعات اليوم ورشة عمل جادة لا تتوقف نحو الأفضل بإذن الله، وخاصة مع السعي للاعتماد الأكاديمي، رغم ما يشوب هذه العملية من محبطات بين الفينة والأخرى. التعليم في الجامعات السعودية – في نظري – قد بدأ طريقا شاقة وطويلة نحو تطبيق أفضل التصورات الممكنة لطرق ووسائل التعليم المبتكرة والقادرة على مواكبة الاقتصاد المعرفي من جهة وتحقيق متطلبات السوق السعودي من جهة أخرى. 
هذه البداية الطيبة تحتاج اليوم إلى مزيد من الدفعات لإيجاد الآليات التي تضمن تزويد الطالب بمهارات شخصية وقدرة على طرح المبادرات الملائمة لتطوير واقع التعليم الجامعي، وأيضا خلق بيئة نشطة يتقن فيها الطالب ممارسة البحث العلمي الهادف لزيادة التراكم المعرفي المحلي. التراكم المعرفي العالمي ضخم، لكننا بحاجة إلى تنقيته وتعزيز قيمنا نحن في هذه المعرفة، لتسهم في تطوير التصورات عما ينفعنا محليا. هذه البداية أيضا تحتاج إلى الأستاذ الذي يدرك أن دوره وجد ليساند هذا الطالب في تحصيله للعلم والمهارات. أستاذ اليوم ما زال يعيش بين عصرين ويحتاج إلى تأكيد الانتماء للعصر الحالي المسلح بالتكنولوجيا. 
اليوم نعيش تطورا هائلا يحتوي على الكثير من الفرص والتحديات. التكنولوجيا الحديثة والاتصالات والإنترنت والإعلام الاجتماعي لو نظرنا إليها كفرص لاستطعنا استغلالها بشكل أفضل في خدمة التعليم الجامعي. وإذا نظرنا إليها كعقبات فستكون عبئا علينا قد يكسر ظهورنا مستقبلا.
مازال الإنترنت والإعلام الاجتماعي يساهمان بشكل كبير في تشكيل واقع أجيالنا الجديدة. طلاب اليوم غير طلاب الأمس بوجود هذه الفرص والتحديات. الفرص كبيرة والإمكانات التي بحوزتنا ضخمة وما علينا إلا استغلال وتوظيف كل ما هو موجود لمصلحة هذا الخريج الجامعي. هذا الخريج هو الذي يفترض فيه أن يقوم بتسيير أعمالنا ويحقق طموحتنا، وأيضا هو من يفترض أن يحمل همومنا. وأقل ما يمكن أن نقوم به هو إعداده الإعداد الجيد الذي يجعله قادرا على حملنا بعد أن يتخرج. جامعات اليوم أمام مسؤولية تاريخية، وما نشاهده اليوم داخل جامعاتنا من حركة دؤوبة ونشطة يستحق التقدير ويجعلني أتفاءل بمستقبل مشرق لبلادنا.


المصدر: http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=10545
صحيفة الوطن:  الأحد 23 أبريل  2012

بناء الحجر يختلف عن بناء البشر

أكتب هذه السطور وكلنا في معمعة الامتحانات النهائية لعشرات الألوف من الطلاب. فيما يخص جامعاتنا نستطيع القول بأن الله قد أكرمها كثيرا حيث قامت الدولة بتوفير ميزانيات ضخمة حركت الجبال داخل الجامعات.. لكنها، وللأسف، لم تستطع تحريك البشر كما يجب. هنا أتحدث عن جامعة الملك عبدالعزيز التي أتيحت لي فرصة لأمتحن طلابي في قاعة ضمن المباني الجديدة التي شيدتها الجامعة. المباني والقاعات والفصول الدراسية، في نظري، تم بذل جهد خارق في تخطيطها ومتابعة تنفيذها وإلا ما ظهرت بهذا الشكل الذي يؤكد أنها ستبقى بإذن الله سنين طويلة لأجيالنا القادمة.
تم اختيار أفضل الخامات في إنشاء المباني ذات الكفاءة العالية في تصميم مخارج السلامة. تم تركيب الأبواب والكراسي المريحة لجلوس الطالب في المحاضرة إضافة إلى الإضاءة والتكييف المناسبين والسبورات الحديثة وتجهيزات وشاشات العروض الإلكترونية وتوصيلات شبكة الإنترنت. الحق يقال ليس هناك على وجه الأرض أفضل من هذه الفصول الدراسية من حيث الجودة.
عندما قلت في بداية المقالة: استطعنا تحريك الجبال كنت أعني هذا. استخدمت الجامعة كل طاقاتها وخبراتها لإخراج أفضل بنية تحتية للتعليم الجامعي من خلال المقاولين الذين قاموا بالتنفيذ. مشكلتي دوما ترتبط بما بعد الإنشاء وهي ذات علاقة بتوفير الموارد البشرية القادرة على إدارة وصيانة هذه المباني. هذه المشكلة لا تعاني منها الجامعة بل أغلبية الأجهزة الحكومية، حيث تنفق أموالا طائلة في البناء ثم يأتي دور الصيانة والنظافة والحراسة التي "نبخل" عليها فتتراجع الخدمات في المبنى بعد سنوات قليلة.
واقع الحال يقول بأن صيانة المباني والتكييف والنظافة والحراسة لا ينفق عليها الكثير بما يوازي الاستثمار الضخم في عملية التشييد ولا يوظف لها من الكفاءات البشرية المدربة والقادرة على هذه المهام، وإذا تم توظيف البشر فكثير من الأحيان تدفع لهم رواتب متدنية ولا يتم توجيههم أو تدريبهم أو محاسبتهم. النتيجة معروفة هنا أعطال للأجهزة وتآكل في المبنى. هنا لا ألوم الجامعة بقدر ما ألوم أنظمة المالية والخدمة المدنية التي زرعت في مفاصل جميع الأجهزة الحكومية وأصبحت تكبح العمل المخلص والجاد من كل موظف يريد أن يكون مخلصا وجادا في عمله. هذه الأنظمة التي كان هدفها منع التلاعب والفساد هي نفسها التي تدفع المسؤول إلى الالتفاف حولها. في النهاية الأنظمة نفسها تشجع ما أرادت أن تمنع.
إن النجاحات التي نحققها في بناء الحجر يجب أن يواكبها نجاحات في بناء البشر. والحقيقة لا أعلم كيف نستطيع أن نبني البشر إذا كان هؤلاء البشر منشغلين عن وظائفهم في التفكير في حاجاتهم واحتياجات أسرهم المادية والمالية. إن فشلنا في إعطاء كل ذي حق حقه من الأجر العادل والمزايا الوظيفية مثل العلاج والسكن للعاملين يعد اليوم من أهم العوامل التي تشجع على التسيب واللامبالاة التي نراها بين مختلف فئات العاملين من حولنا. إشباع حاجات الموظف الأساسية، وليست الكمالية، سيوفر مناخا إيجابيا للعمل الجاد والمخلص، وحينها سيتوجه فكر الموظف للعمل ولن يتحجج بعدها بأعذار متكررة وواهية وحينها أيضا سيتمكن رئيسه في العمل من متابعة موظفيه في كل إنجاز لم ينجز في وقته بدلا من الإشفاق عليهم وعلى أوضاعهم.
نحن نقول دوما بأن الموارد البشرية هي ثروتنا الحقيقية.. أستغرب كثيرا كيف تتخذ وزارة الخدمة المدنية "إن خير من أستأجرت القوي الأمين" شعارا لها وهي تعلم أن هذا "القوي الأمين" الذي أستأجرناه يحتاج إلى أن يقتنع هو أولا بأنه بالفعل "قوي وأمين". وكيف يقتنع ولسان حاله ووضعه المادي لا يمكنه من ذلك.
صحيفة الوطن:  الأحد 1 يناير 2012

الطالب الجامعي بين تقنيات اليوم وعقلية الأمس

مع حلول موعد الامتحانات الجامعية ومع الأخبار التي تتناقلها صحافتنا حول استياء طلاب التعليم الجامعي من أنماط وطبيعة الامتحانات، فإني آمل أن يتسع صدرنا لحقيقة أنه يتوجب علينا أن نقفز بالعملية التعليمية وبمناهجنا إلى احتياجات الواقع الجديد لطلابنا. طلاب اليوم ليسوا طلاب الأمس وما يشغل يومهم وتفكيرهم بعيد تماماً عن أسلافهم طلاب الأمس.

الثورة التكنولوجية والاتصالاتية التهمت كل شيء وأصبح كثير من الطلبة يشغلون وقتهم في سباق معها، وأعداد مستخدمي الإنترنت من الشباب تتصاعد بوتيرة كبيرة للغاية، وكل جامعاتنا تقريباً تطالب الطلاب بالدخول لأي من أنظمة الجامعة الإلكترونية في أمور التسجيل والحذف وكافة الخدمات التي تقدمها الجامعة، بل إن كثيراً من الأساتذة يطالبون الطلاب بعمل عروض لمواضيع دراسية وأبحاث عبر التطبيقات الحاسوبية المتاحة اليوم. فوق ذلك، الطلاب يشاركون في المنتديات الطلابية التي تتيح لهم الحصول على معلومات تهمهم حول الأستاذ وحول المنهج من أقرانهم الطلاب.
ملخص الكلام أن طلابنا اليوم تغيروا ومناهجنا لم تواكب "التغيير" بكل أبعاده. صحيح أن الأستاذ الجامعي أصبح يدرس المادة عبر الشاشات وقلة منهم ما زال يستخدم السبورة (وخاصة في المواد التي تستخدم لغة الأرقام الرياضية)، لكننا ما زلنا بعيدين عن استغلال ماهو متوفر على شبكة الإنترنت وخاصة موقع الـ "يوتيوب" (YouTube) الذي يتيح الآن ثروة إنسانية هائلة لم تكن متوفرة بالأمس، وهو من المواقع المحببة إلى نفوس الطلاب يلجؤون إليه لمشاهدة مقاطع الفيديو التي تروق لهم وتسليهم.
الزيادة الهائلة في محتوى قناة الـ "يوتيوب" دفعتني لتجريب بعض مقاطع الفيديو في التدريس. على سبيل المثال هناك مقاطع فيديو عديدة يمكن من خلالها إيصال حجم هائل من المعلومات للطلاب لشرح نظرية في القيادة الإدارية أو التخطيط أو التنظيم أو الرقابة، على سبيل المثال.
وأكاد أجزم أن هناك مقاطع فيديو في أي شيء نريده.. فقط علينا بالبحث.
كنت أعرض هذه المقاطع على الطلاب في المحاضرة لإيصال المفاهيم العلمية التي أريدها بشكل حديث. وجدت رغبة جامحة لدى الطلاب في هذا الاتجاه. وفي أحد الأيام اضطررت للتغيب عن محاضرة وأردت إفادة الطالب في الوقت الذي سأتغيبه.. طلبت منهم في المحاضرة السابقة أن يشاهدوا مقطع فيديو معيناً تم إرساله لهم بالبريد الإلكتروني، وأن يجيبوا عن أسئلة محددة حول بعض مفاهيم المنهج الدراسي وعلاقتها بمقطع الفيديو. كانت تجربة ثرية بالنسبة لي، دفعني حماس طلابي إلى إنشاء موقع إلكتروني على شبكة الإنترنت وضعت فيه عدداً من مقاطع الفيديو التي أستخدمها في التدريس. الموقع متاح للجميع وما زال متواضعاً لكنه البداية.
عنوان الموقع هو http://vccipa.blogspot.com/ .
أحد الطلاب تحمس للفكرة وأرسل لي رابطاً لمقطع فيديو يحوي نقاشاً مهماً بين مفكرين له علاقة وثيقة بالمادة العلمية التي أدرسها. مدة المقطع حول 25 دقيقة.. كل صورة وكل جملة وكل كلمة تغني عن آلاف الكلمات في منهج المادة.
مشكلتنا مع طلابنا أنهم يريدون منا القيام بتطويع معلومات المنهج في شكل حديث وجذاب يتماشى مع قدراتهم ومهاراتهم الحالية. في الطرف الآخر ما زال هناك من الأساتذة من يؤمن بأن طرق المحاضرات والامتحانات التقليدية في التعليم هي الأساس في مواجهة قصور المخرجات الجامعية. ما نحتاجه اليوم هو تجسير الفجوة بين أساتذة الجامعات حول كيفية تطبيق مفاهيم التعليم بما يتناسب مع احتياجات الجيل الحالي وليس الجيل الذي ولى. تجسير الفجوة يحتاج إلى كثير من النقاش والحوار وصناعة القرار الذي يكفل احتواء الطلاب وعدم صعود ردود أفعالهم إلى ما لا تحمد عقباه.
الطالب في النهاية ليس عدواً لنا... الطالب الجامعي الذي يدرس في مدرجاتنا اليوم سيكون في مواقع اتخاذ القرار غداً. كلنا لا نريد أن نخرج جيلاً محبطاً لا هم له سوى الانتقام مما حوله. مخرجات الجامعات حالياً إن كانت تعكس شيئاً فهي لا تعكس إلا فشلنا نحن في استيعابهم واحتوائهم بعيداً عن مفاهيم وأفكار نحن غير مقتنعين بها
أساساً.. لكن رغم ذلك لا نملك إلا أن نسير عليها

صحيفة الوطن:   الجمعة   23 دسمبر  2011

"عبدالعزيز" الذي أصبح "سلطان"


رحل سلطان الخير، لكن لم ترحل أفعاله..
كل من ربطه القدر بسلطان بن عبدالعزيز أبى إلا وأن يتحدث عنه ويعبر عن مشاعره الحزينة.
منهم من نشر إعلانا في الصحف، منهم من كتب في الصحافة، منهم من نظم قصيدة، منهم من شارك في القنوات الفضائية، منهم من عبر عن حزنه وأفرد صفحات في شبكة الإنترنت، وأخيرا منهم الكثير الكثير ممن آثر أن يدعو له في ظهر الغيب.
جاء رحيل سلطان الخير ليثبت لنا جميعا قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه إن "صنائع المعروف تقي مصارع السوء".
المسلم يعلم أن عمل الخير عبادة، وقليل من التفكر في هذه الكلمات يعيدنا إلى الطريق الحق في تعاملنا مع غيرنا، وكيف أننا كبشر نحصد نتائج المعروف الذي نقدمه للغير، وكيف أن هذا المعروف يدور ويدور في هذا الكون حتى يكون سببا في وقايتنا من مصرع سيئ.
كثيرا ما نقرأ أن كلمة طيبة نقولها تبلغ في آذان سامعها مبلغا كبيرا وتصنع منه شخصا عظيما، وأن صدقة في نظر البعض قليلة تقع في كف محتاج تصرفه عن ارتكاب الآثام، وأن لحظة عطف على إنسان محطم تجمع شتاته وتخرج الأمل من صدره.
كل هذه الصنائع أتقنها سلطان الخير ولا أبالغ إن قلت إن هذه الصنائع أضفت السكينة والطمأنينة في أرجاء مجتمعنا هذا لدرجة أنها دفعت وما زالت تدفع عنا الشرور والفتن في هذا الزمن الذي تلتهب فيها منطقتنا.
جاء رحيل سلطان ليقلب مواجع وذكريات صعبة الزوال..
كل المجتمعات تواجه المصاعب وكلنا نواجه الألم أو المرض أو الكرب أو المحن التي تلم بنا جميعا.
الفرق بيننا وبين غيرنا أن مجتمعنا السعودي حباه الله "قيادة" غرس في قلبها سلطان بن عبدالعزيز.. وسلطان هذا كان يشكل كل الفرق.. كان سلطان يد خير جندها الله عز وجل للتخفيف من وطأة الآلام والمرض والكرب والمحن التي تعصف ليس بأبناء هذه البلاد بل تظلل بفيئها الكثيرون في أنحاء هذا العالم.
الموت حق علينا جميعا..
لكن ليس كل من مات عاش..
لن أتحدث عنك يا سلطان بن عبدالعزيز فالكل يعرف من أنت..
لكني أعيش كل يوم سلطان الذي سماه والدي على اسمك تيمنا بك. ولد سلطان هذا وسمي بـ"عبدالعزيز" على اسم جده والد زوجتي، لكن والدي رحمه الله طلب مني تسميته "سلطان" لأن سلطان بن عبدالعزيز وقف معه في مرض والدتي يحفظها الله.
اليوم كلنا نحن أبناء المملكة الحانية وليس منا إلا من حنا عليه سلطان لا نقول إلا "اللهم إن سلطان قد أحسن إلى خلقك فأحسن إليه يا رب العالمين". آمين


http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=8006
صحيفة الوطن:   الإثنين 31 أكتوبر 2011

مدارسنا الخاصة والحكومية

عندما نطالع الصحف اليومية عن طريق شبكة الإنترنت لا نملك إلا أن نستعجب للتعليقات أسفل الخبر. في بعض الأحيان يكشف صاحب التعليق عن ضحالة فكرية وفي أحيان أخرى يكون الخبر فرصة للكثيرين للتنفيس عن معاناتهم، وقد يصل بالبعض لتصفية حساباتهم مع الجهة أو الجهات موضوع الخبر. وفي هذا الصدد نشرت قبل عدة أيام إحدى الصحف المحلية خبرا عن قيام بعض المدارس الأهلية بزيادة الرسوم الدراسية للطلاب والطالبات. والحقيقة أن موضوع الرسوم لا يهمني بقدر ما يهمني التفاوت الكبير بين أداء المدارس الحكومية مقارنة بأفضل المدارس الخاصة، وأتساءل كيف نجحت بعض المدارس الخاصة في تعليم أبنائنا وبناتنا بشكل جيد في وقت فقدنا فيه الثقة بمدارسنا الحكومية. بعض الإحصاءات تقدر عدد المدارس الخاصة في بلادنا بحوالي 3 آلاف مدرسة تضم أعدادا بعشرات الآلاف لا تقارن بالمدارس الحكومية التي تضم ملايين الطلاب والطالبات. مشكلتي مع المدارس الحكومية هي أن فقدان الثقة فيها قد جرف الكثير من أفراد المجتمع إلى التعليم الخاص، ويدور الحديث عن أن المدارس الحكومية في مجملها مكان للتعليم ذو الجودة المنخفضة. أنا لا أقول إن التعليم في كل المدارس الخاصة ذو جودة عالية تصل إلى طموحاتنا لكن مجموعة لا بأس منها تخضع لضغوط أولياء الأمور وتتمتع بسمعة طيبة وتقوم هذه المدارس باتخاذ أسلوب غير تقليدي في اختيار الأستاذ والوسائل التي تنتج تعليما قادرا إلى حد ما على مواجهة التحديات التي يواجهها مجتمعنا على المستوى المحلي والمستوى العالمي، في حين أن نظيرتها الحكومية تتشابه في الإمكانات والموارد. الانجراف نحو التعليم في المدارس الخاصة لا غبار عليه، في نظري، إذا لم يقابله تدن واضح في ثقة المجتمع بالتعليم في المدارس الحكومية.المشكلة أن هذا الانجراف سيخلق مجتمعا فيه تفرقة واضحة بين المقتدر وغير المقتدر. ما سيحدث أن المقتدر ماديا لن يمانع من إرسال أولاده وبناته للمدارس الخاصة بينما يقف غير المقتدر حائرا مشلولا أمام الأعباء والالتزامات المالية التي لا يستطيع دفعها في المدارس الخاصة، وبالتالي سيلجأ للمدارس الحكومية والنتيجة الحتمية أن نوعية وبيئة التعليم ستنعكس على جودة الخريجين من أبناء غير المقتدرين مما سيجعل أبناء المقتدرين من خريجي المدارس الخاصة المتميزة دائما في وضع أفضل في القبول في الجامعات أو الحصول على بعثة خارجية أو فرص أفضل في حياتهم. التعليم العام الحكومي في بلادنا الغالية يحتاج إلى أكثر من وقفة ليس لمجرد تدني مستواه ولكن لأنه يخلق طبقية مستقبلية مصطنعة بين المقتدرين وغير المقتدرين سببها قصور مخرجات التعليم الذي يصيب بالشلل أصحاب الطبقة غير المقتدرة. الحل في نظري يكمن في غربلة التعليم الحكومي حتى يستعيد الثقة التي فقدها. الحلول في ظني موجودة لدى أصحاب الاختصاص وهم بلا شك مفكرون ومبدعون لكنهم مكبلون بأنظمة حكومية تمكنت منها البيروقراطية بشكل جعل العديد من المدارس الخاصة تستغل هذه الفجوة لتحقق سبقا على المدارس الحكومية. 

الإعلام الجديد.. التحدي الراهن


مهما تحدثنا عن شبكة الإنترنت وما تجلبه لنا من منافع لا حصر لها إلا أننا لا نستطيع أن نغفل ما يتخللها من سلبيات ومحاذير. الإنترنت اليوم موجود بيننا.. ضيف دخل بيوتنا برغبتنا.. تعودنا عليه ولم يصبح بإمكاننا التخلص منه أو من أدواته التي دخلت حياتنا عنوة. اليوم اكتشفنا أن هذه الشبكة عبارة عن كم هائل من العوالم التي أصابت بالإدمان الكثير منا. لا أريد التحدث عن الإيجابيات لأن كل مستخدم ملم بهذه الجوانب. حديثي هنا عن جانب مظلم للإنترنت فتح أبوابا يصعب غلقها. إنه "الإعلام الجديد" الذي قلب موازين الأمور حتى بات هذا النوع من الإعلام يمارس دورا تحريضيا للتغيير الذي لا يسير بمحاذاة دور الإنسان في تعمير هذا الكون لا تدميره.
وسائل "الإعلام الجديد" (مثل البريد الإلكتروني، والدردشة، والفيس بوك، وتويتر وغيرها) تستمد جاذبيتها من "المحتوى الشخصي" الموجود على مواقع شبكة الإنترنت، والتابع في الغالب لأفراد من دول وبلدان مختلفة حققوا شهرة واسعة خلال فترة قصيرة بفضل ما يحملونه من أفكار تختلف عما هو سائد وناتج من الإعلام التقليدي. جاء "الإعلام الجديد" وقلب الطاولة على نظيره التقليدي، وأتى بمحتوى جاذب اختلطت فيه الأطياف والمشارب والتجارب، وأخرج كل التناقضات التي نحملها في جوفنا إلى الخارج، وكل ذلك بعيدا عن أعين الرقيب الحكومي. وضع الإعلام التقليدي اليوم هو كمن أصيب بوعكة ألزمته الفراش، واحتل محله الإعلام الجديد ليوفر خبرا ومحتوى سريعا لا يخضع لأي معايير. اليوم، للأسف، نرى الإعلام الجديد وهو يسهم وبشكل مباشر في تغذية رغبات وتطلعات وأجندات أفراد لا نعلم من وراءهم ويساعد هذا النوع من الإعلام في احتدام النقاش وتأجيج نقاط الخلاف والتهجّم وحتى التعدي على الآخرين. خطورة "الإعلام الجديد" تكمن في قدراته التفاعلية التي تستخدم شبكات التواصل الاجتماعي لملايين البشر حول العالم تسانده في ذلك أدواته التي تساعد على التواصل بين كل مستخدمي الإنترنت تقريبا. واقع الحال يقول بأن هذا "الإعلام الجديد" قد سحب البساط من أيدي الكثير من الحكومات، وأثبت قدرته على صناعة الأحداث والتعبير عما يدور في النفس بعيدا عن تدخل الحكومات في عملية لاشك أن لها الكثير من الإيجابيات في توصيل الرأي لكنها، في الوقت نفسه، خلقت الفوضى والتشويش على أفكار ومخططات وأحلام المجتمعات التي تنشد التنمية والرقي بنفسها.ما دفعني للكتابة عن "الإعلام الجديد" بريد إلكتروني تلقيته من زميل كان قد مرره إليه أحد زملائه. رغبت أنا أيضا في تمريره لولا أنني فضلت التريث لأتابع حقيقة وصحة ومصداقية هذا البريد من خلال الوصلات والروابط التي تضمنها. الحقيقة هالني ما رأيت من استغلال المنظمات الغربية لسذاجة البعض من مستخدمي الإنترنت وشبكات التواصل الإعلامي والاجتماعي، وسقوط أعداد من شباب الأمة في أحضان منظمات ليس لها من وظيفة إلا التدخل السافر في شؤون الشعوب من خلال المتحمسين لقضايا يابسة وشائكة لا يمكن أن تحلها الحكومات بين ليلة وضحاها. ليس هذا فقط، أحد الروابط أخذني إلى منظمة غربية تعرف نفسها بأنها منظمة غير هادفة للربح تكرس جهودها لمساعدة الناشطين لبناء قدراتهم وبذل مزيد من التأثير على العالم. كيف تفعل هذه المنظمة ذلك؟ تجيب على صفحاتها بأنها تقوم بالتعرف على الناشطين الرقميين (مستخدمي شبكة الإنترنت) إضافة إلى رصد كافة التطورات التي تحدث في النشاط الرقمي (مثل المدونات الفيس بوك وتويتر)، ويقومون بتعريف هؤلاء الناشطين ببعضهم البعض لتبادل الخبرات والنصائح وحتى عقد الاجتماعات والمؤتمرات ليلتقوا ببعضهم البعض لمناقشة قضايا بلدانهم وتوفير الموارد اللازمة والتدريب والإرشاد وتسهيل الاجتماعات وجها لوجه بين أعضاء شبكتهم المتواجدين في وسائل الإعلام الاجتماعية. أحدث التفاعلات الموجودة في هذا الموقع يشير إلى خبر في صحيفة الجارديان البريطانية يقول بوجود احتجاجات في شوارع عاصمة ماليزيا، كوالالمبور، تعد ماليزيا للديموقراطية "على غرار الربيع العربي".اليوم أرى أننا يجب أن نأخذ شبكات التواصل الاجتماعي مثل تويتر، وفيس بوك وغيرهما على محمل من الجد من خلال رصد الإيجابيات والسلبيات المتوقعة على أبنائنا بهدف الوصول إلى قرارات لا تشمل إعلامنا الحكومي بل تتعداه لدراسة المجالات التي يمكن فيها احتواء مثل هذه الظواهر الجديدة التي ينغمس فيها شبابنا. إن أي عاقل يعلم أن لكل فرد منا آراء وأفكارا وميولا ودوافع واستعدادات وقدرات محددة تختلف عن الآخرين. قد يكون مجمل هذه الأمور غير يقظة وفي حالة ركود، لكنها تظل موجودة بانتظار مغرض أو مخرب خارجي يوقظها. مشكلتنا مع الإعلام الجديد أنه يتلقف وبكل رحابة صدر كل الأفكار أيا كانت، وبالتأكيد هناك من المنظمات الأجنبية من يتلقفها ويصنفها لغايات تهمهم. ولأننا في عالم اهتزت فيه القيم والمبادئ فإنني أرى أن ما تحتويه شبكات التواصل الاجتماعي من أمور قد تجاوزت كل الخطوط الحمراء. نحن نعيش اليوم تحولات مهولة فيما يصل إلينا من معلومات وبالأخص من زيادة هائلة في جرعات المعرفة لدرجة أنها أثرت في طرق تحليلنا وتفسيرنا وتنظيمنا لما يدور من حولنا من أمور. الحل، في نظري، لا يكمن طبعا في مزيد من التشديد على مستخدمي الشبكة بقدر ما يكون في صنع فضاء إلكتروني يمثل بالفعل قيم هذه الأمة ويقارع غيرها بالحجة والبرهان.

الإصلاح يبدأ بتعديل ثقافة المجتمع

ليس صعبا علينا اليوم ملاحظة أن مجتمعنا السعودي يعاني الكثير من التشنج الناتج عن تراكم الأحداث المتسارعة من حوله. الأدلة أمامنا كثيرة.. يكفينا فقط النظر إلى ما تتناقله صحافتنا المحلية والفضائيات الإقليمية ومواقع الإنترنت والمدونات الشخصية التي تدور في فلكنا لنكتشف واقعنا. مظاهر التشنج واضحة في المفردات النابية والجارحة، والتهكم والصوت العالي، والسب والقذف والسخرية، التي أصبحت تستخدم بشكل واسع في الوسائل الإعلامية. مما يؤسف له اليوم خروج الكثيرين من مجتمعنا عن فضيلة "التسامح" و"التريث في إصدار الأحكام"، فينجر الكثير وراء خبر مبتور أو مدسوس لتبنى عليه استنتاجات لا تخدم أحداً سوى إشباع رغبة "أنا على حق وغيري على خطأ". المشكلة هنا أن هذا التشنج يتدحرجان مثل كرة الثلج، يجران معهما قضايا أخرى مدفونة أو نائمة، لتحدث تفاعلات جديدة لا يعلم نتائجها إلا الله. من أمثلة القضايا التي تسببت في التشنج بين شرائح المجتمع قضية "قيادة المرأة للسيارة" التي جيشت أفراد المجتمع إلى فصيلين. وللأسف في جو سلبي كهذا لا بد لكل صاحب رأي أن يدلو بدلوه، ويشارك الآخرين اعتزازه برأيه أيا كان، وعلى أي وسيلة كانت، دون أي تقدير لمضامين أو لعواقب رأيه. حالنا اليوم لا تتحكم فيه الفضائيات والصحف فقط. فقد دخلت في اللعبة عناصر جديدة.. مدونات لا أول ولا آخر لها، فيس بوك، تويتر وغيرها. اليوم أصبح لكل مرتادي شبكة الإنترنت شبكة اجتماعية عبر الإنترنت، تنقل وبسرعة عالية جداً كل ما هو شاذ وخارج عن المألوف. اليوم يتسابق الناس ليكونوا الأوائل في التقاط وتمرير كل شاذ وخارج عن المألوف، عبر الشبكات الاجتماعية. اليوم مقالة في صحيفة حول استئصال الفقر المدقع والجوع، أو تقليص معدلات الوفاة بين الأطفال، أو تحسين صحة الأم؛ لن تجتذب الكثير مثلما تجتذب مقالة عن "لحوم الحمير" أو "انتماء أهل الجنوب والشمال". ما أريد الوصول إليه أن مثل هذه الأخبار مجلبة للأحقاد والضغائن، وتؤثر في النفوس وتستثير كل ما هو كامن ونتن. هذه الأخبار غالباً ما تكون غير دقيقة وخارجة عن سياقها، إلا أن تلقى رواجاً وترحيباً من ثقافتنا الجديدة، التي تستسيغ تمريرها وتأجيجها لأغراض في نفوسنا. ثقافة المجتمع الجديدة هي محور الأزمة التي نعيشها.. طريقة فهمنا للحياة، وكيفية تنظيمها، وأسلوب العيش في هذه الدنيا التي طرأ عليها تغيير كثير، أخرجنا من إطارنا وقيمنا التي تميز بها مجتمعنا سنوات طويلة. ما نجنيه اليوم من ممارسة ثقافتنا يشوبه الكثير من الملاحظات التي تنخر سلوكنا، وطرق تفكيرنا وإدراكنا للأمور. اهتمام المجتمع المتزايد بقضايا الإثارة أصبح جزءاً من ثقافتنا التي توهن ثقتنا بكل ما حولنا. أصبحنا اليوم نعيش أشكالاً من السلبيات التي لا نعي أنها سلبيات. لماذا؟ لأنها نابعة من ثقافة جديدة لا تعي من قيمنا الإسلامية إلا شكلها الخارجي. يكفي فقط النظر إلى الكم الهائل من الردود والتعليقات على مشاكلنا وقضايانا، التي يشارك بها القراء عبر الشبكة. ردود في مجملها لأناس قليلي الحيلة لا يملكون إلا مدارك متواضعة، ومفردات سطحية تفتقر إلى التهذيب. في نظري المتواضع، وطالما أننا في معركة الإصلاح، علينا أن نركز على إصلاح تلك الجزئيات التي تختص بثقافة هذا المجتمع، والتي استهدفتها كثير من المتغيرات الاقتصادية العولمية، التي شوهت مجتمعنا عبر السنوات الماضية. كنا نتغنى في السابق بمفهوم "الأسرة القوية".. اليوم لا أعلم كيف هي الأسرة السعودية. كنا نتفاخر بالاهتمام بالجيران وتفقد أحوالهم.. اليوم نحن في واد وهم في واد. التراحم والتسامح بين أفراد المجتمع كان سمة من سمات مجتمعنا.. اليوم نعيش تعاسة نتيجة استيرادنا من الغرب مفاهيم وتقنيات لم نع مضامينها إلا مؤخراً. 
لعل أولى خطوات الإصلاح تكون في المتخصصين من أبناء هذا الوطن لصناعة الاستراتيجيات التي يمكن أن تجعلنا أكثر قدرة على الدفاع عن هويتنا في مواجهة الهويات الدخيلة، التي تتراقص من حولنا وتجعلنا أكثر تشنجا وارتباكا. لدينا من المتخصصين اليوم في بلادنا من هو قادر على تشخيص الحالة الراهنة، وتقرير التوصيات اللازمة. الطريق لتحقيق أماني وتطلعات مجتمعنا ليست أبداً بسهولة كتابتها.. إنها طريق طويلة وشاقة، تتطلب منا جميعاً إدخال تعديلات بسيطة فيما نفعله كل يوم.. ولماذا نفعله بهذه الطريقة أو تلك؟ إنها مراجعة شاملة لطريقة تفكيرنا ولسلوكياتنا وتوجهاتنا، والطريقة التي ندرك بها ما يدور من حولنا.

تعديل نظام المطبوعات والنشر.. نعمة أم نقمة؟


لعل من أهم الأخبار التي استحوذت على النقاشات بين المثقفين والعاملين في مجال الصحافة والإعلام مؤخرا، خبر تعديل نظام المطبوعات والنشر. وباعتباري متابعا للشأن الإداري والتنظيمي في المملكة؛ فإنني أتوقع تأثيرات إيجابية كثيرة لهذه التعديلات رغم بعض المشاعر السلبية التي ظهرت من عدد من الكتاب في المجال الإعلامي وأعتقد أن هذه التعديلات ستسهم في إشراق واقع إعلامي جديد يتسم بالمسؤولية بين المتعاملين في الساحة الإعلامية ويساعد مستقبلا في بروز الوجه الإعلامي الذي نطمح إليه في صحافتنا. 
وإحقاقا للحق، فإنني وبعد قراءة مستفيضة ومتأنية للتعديلات، وجدت أنها لم تأت من فراغ وإنما أتت لتسد فراغا في الأنظمة طالما نادى به الكثيرون من المهتمين بالشأن والصالح العام. 
في نظري أن هذه التعديلات جاءت لتحقق مبدأ "الحرية المسؤولة" التي تكبح النتائج السلبية التي نراها اليوم والمتمثلة في مساحة الحرية الصحفية التي استغلت من قبل البعض. ولا أريد أن أذهب بعيدا... ففي هذه الصحيفة كتبت قبل أكثر من 5 شهور وبالتحديد في 9 الحجة 1431هـ الموافق 15 نوفمبر 2010 م مقالة بعنوان "لمصلحة من ما يكتب في صحافتنا؟" وقلت ما نصه: "ولكوننا نتمتع بهامش حرية واسع في صحافتنا ولأننا نعايش أنظمة غير فعالة في مقاضاة من يسيء إلى الغير عبر الكتابة الصحفية فمن الطبيعي أن تعج بعض صحفنا بالأخبار المبتورة وغير الدقيقة التي تتلقفها وتضخمها المواقع الإلكترونية والمنتديات والمدونات الشخصية (السعودية والأجنبية) مما يؤدي إلى انعكاسات مدمرة لا تضع أمام المجتمع إلا ما ينفره ويشككه في مصداقية و ذمة كل من حوله حتى بتنا نرى كل ما أنجز من حولنا خرابات لا يعيش فيها إلا طائر البوم".
وليس انتقاصا في حق صحافتنا أن أقول إنها صحافة نامية تستحق الرعاية والتطوير وإنها قد قطعت شوطا كبيرا وجيدا رغم ما يشوبها من قصور في كفاءة بعض العاملين فيها ورغم انجراف بعض الكتاب نحو ما يشبع أهواءهم الشخصية ورغم سياسة بعض الصحف في حب الإثارة لزيادة المبيعات.... كل ذلك في أجواء تشجع على تسليط الأقلام ضد الغير دون محاسبة قانونية جدية حتى أصبحت ساحات صحافتنا مثل الطرق في حاجة ماسة إلى نظام "ساهر" من نوع آخر ليردع كل من يبيح لنفسه الإساءة للغير. 
ورغم إيماني العظيم بضرورة وجود صحافة جادة تكون عين المجتمع والدولة تسهم في تصحيح المسارات وتنبه كل مسؤول إلى مواقع الخطأ، إلا أنني ضد ما يحدث في بعض صحفنا من حرية شن الهجوم على المسؤولين الذي نتيجته شل وتكتيف قدرات وحركة المسؤولين ووضعهم في حالة توجس وترقب مما قد تكتبه الصحافة منتقدة قراراتهم مما يؤدي بالتالي إلى صدور قرارات مبتورة لا تفي بالغرض ولا تحقق الأهداف المنشودة. عليه، فإن وجود تنظيم يضمن عدم تعدي أو تجرؤ كاتب أو صحفي على مسؤول إلا بوجود أدلة دامغة، لا تتعدد تفسيراتها، هي الضامن الوحيد لولادة صحافة مسؤولة تعي دورها الهام في بلادنا بدلا من تأزيم عملية وحركة التنمية. 
عملية الإصلاح التي تقودها الدولة لا شك أنها تواجه الكثير من التحديات. شخصيا أرى أن هذه التعديلات في نظام المطبوعات إنما هي في إطار المحاولات الإصلاحية التي أتمنى ألا يتم بترها أو تجزئتها، لأنها في نظري، ستقضي على كثير من السلبيات في مجتمعنا. تماما كما فعلت وزارة الداخلية في نظام "ساهر" رغم كل الاعتراضات التي واجهت النظام. فعندما طبق النظام شعرنا جميعا بالتحسن في الحركة المرورية وزادت درجة الطمأنينة بيننا. لا أقول أن المرور حقق كل ما هو مطلوب منه فما زال أمامه مشوار طويل لتحقيق أكبر قدر من السلامة المرورية الشاملة. 
الآن حان دور الإعلام ليشيع روح الطمأنينة بأن لا أحد صغيرا أو كبيرا، سيفلت من قبضة القانون فيما لو تجاوز حدوده.

معلمو محو الأمية وأزمة بيروقراطيتنا

مرة تلو الأخرى تكشف لنا بيروقراطيتنا الحكومية نقاط ضعفنا. من وجهة نظري المتواضعة أن الأوامر الملكية الكريمة الأخيرة جاءت وفي طياتها رسالة مهمة لكل مواطن.. أن الوطن للجميع وأن الدولة تفعل ما بوسعها لراحة هذا المواطن، لكن وللأسف الشديد لا تتقيد البيروقراطية إلا بالنصوص والكلمات بحذافيرها ولا تتعامل بـ "روح" الأوامر الملكية وهي لا ترمي نفسها في أحضان "روح" الأوامر إلا عندما تأتي هذه الأوامر على مزاجها أو "على طبطابها" كما نقول بالعامية.

تعيين معلمي محو الأمية والتشغيل الذاتي، في الأصل، جاء على حاجة هذه الأجهزة ولم تكن هناك وظائف متوافرة وتم استغلال النظام والالتفاف حوله لتعيين هؤلاء على بنود محددة لسد الاحتياج سواء كان مؤقتا أو دائما. ويبدو أنه بعد صدور الأوامر الملكية تبين لبعض هذه الأجهزة أن هؤلاء قد تم تشغيلهم دون التدقيق اللازم في احتياجاتهم الوظيفية أو مؤهلات المتقدمين وأنه في حالة تثبيتهم سيكونون سببا في إعاقة تحرك هذه الأجهزة الحكومية أو عبئا عليها – وهنا الطامة الكبرى. أقول "طامة كبرى" لأن الأجهزة الحكومية المطالبة بالتوسع في الخدمات ولا تقوم بذلك فهذا يعني أنها أجهزة حكومية تحوي بين ردهاتها إدارات هزيلة ليست لديها القدرة على تنظيم نفسها والتوسع بشكل جيد، وليست لديها قدرة على تحمل التحديات التي تعمل في إطارها ومن ضمنها إطار النظم الحكومية التي لم يتم تحديثها.
في نظري أنه كان يجب العمل على تنفيذ الأوامر الملكية بنصوصها وروحها بشكل سريع، لأنها ما صدرت إلا لبث روح الاطمئنان بين موظفي الدولة، ولأننا لسنا بحاجة إلى موظف واحد فقط يذهب إلى بيته وهو في حالة من الإحباط واليأس من سلوكيات البيروقراطيين لدينا الذين يتسلحون بنصوص النظام عندما لا تأتي على هواهم ويسارعون لتعبئة الفراغات الوظيفية لأشخاص من أقاربهم أو مدينتهم أو قبيلتهم أو حارتهم في أول فرصة سانحة لهم.
ما تفعله البيروقراطية اليوم في أبنائنا إنما يصب في خانة عدم الاستقرار لهذا الوطن وأبنائه ويجب على الوزراء المعنيين بالجهات التي تعاني من مشاكل في تنفيذ "روح" الأوامر الملكية سرعة التنفيذ والضغط على كافة الإدارات التي يشرفون عليها لخلق تنظيمات تتمتع بالإدارة الحديثة التي تستوعب التمدد.
إن تطبيق أصول وأساليب التنظيم الحديث في كافة أجهزتنا الحكومية، ولا سيما قد دخلنا عصر الحكومة الإلكترونية، هو الحل الأمثل والمتوفر لنا اليوم للاستفادة من زيادة القوى العاملة الحكومية، وإبقاء موظفي التشغيل الذاتي ومحو الأمية في حالة القلق النفسي لن يجلب لنا إلا مزيدا من الاحتقان وعدم التفرغ لمشاكلنا وقضايانا الرئيسية.
الأمر الملكي الأخير بتثبيت معلمي ومعلمات محو الأمية رسالة واضحة لكل البيروقراطيين.

لن تكون البحرين "كويت" أخرى

   


















مرة تلو الأخرى تثبت دول مجلس التعاون الخليجي تضامنها وتكاتفها بشكل مسؤول تجاه مستقبلها ومستقبل شعوبها. بالأمس كانت الشقيقة الكويت عندما غامر الرئيس العراقي وقام باحتلالها بغيا وعدوانا في صيف 1990م، وكنت وقتها مع أسرتي في إجازة خارج المملكة، شعرت حينها، ولأول مرة في حياتي، بالهلع والخوف. ورأيت بأم العين ما حل بالإخوة الكويتيين عندما تعثرت أحوالهم في بلاد الغربة ورفضت نقودهم الكويتية وبطاقاتهم الائتمانية.

لم أستطع البقاء في الغربة خوفا من مصير مجهول قد يحل أيضا ببلادي لا سمح الله، وقررت العودة سريعا. عندما صعدت الطائرة وجلست على الكرسي تنفست الصعداء عندما قرأت عناوين الصحف تشير إلى أن قوات عسكرية عربية وصديقة ستأتي لتحرير الكويت.

احتلال الكويت كان خيبة أمل كبرى أشعرتنا جميعا بأهمية الأمن والأمان الذي فقدناه.

احتلال الكويت أشعرنا بخطورة من يحيط بنا من دول لا هم لها إلا تحقيق طموحاتها حتى لو على حساب شعوب المنطقة.

ما كان يحز في النفس أيضا الشعور بظلم ذوي القربي لمواقفهم تجاه الكويت المحتلة وتجاه من يريد تحريرها.

كانت فترة بائسة بكل المعاني واجهت فيه دول مجلس التعاون الخليجي هجوما إعلاميا شرسا.. وممن؟ من إخوة لنا عرب ومسلمين. رغم كل ذلك الهجوم صمدت دول التعاون الخليجي أمام كل الضغوط والمخاطر حتى تحررت كويتنا الغالية.

اليوم، كلما أعود بذاكرتي لأيام الاحتلال البغيض للكويت لا أستطيع أن أخفي شعوري بالفخر لوقفة دول المجلس الصلبة الرافضة لترك الكويت فريسة سهلة في أيدي الباغين. اليوم فقط وبعد بمرور سنوات كثيرة اكتشف الكثير ممن وقفوا ضدنا أن دول التعاون الخليجي كانت لديها كل الحق في كل ما قامت به لتحرير الكويت وتكشفت للعالم كله حقيقة الأمور وانفضحت نوايا الرئيس العراقي الذي لم يعتبر الكويت إلا محطة واحدة ضمن محطات أخرى كان ينوي ابتلاعها لو لم تتيقظ له قيادات التعاون الخليجي.

اليوم، أيضا، وفي خضم الفوضى التي تعم العالم كله بصفة عامة والمنطقة العربية بصفة خاصة أستطيع القول بأن شعوب دول المجلس أصبحوا من الفطنة والذكاء بحيث يميزون أشكال التزييف الإعلامي الذي تتبناه بعض دول المنطقة في موجة جديدة لا هدف لها سوى زعزعة استقرار دول المجلس.

التشابه بين ما حدث في الكويت بالأمس وما يحدث في البحرين اليوم هو يقظة قيادة التعاون الخليجي التي فطنت لما تخططه بعض القوى الإقليمية للبحرين وشعبه.

ورغم اختلاف ظروف فترة احتلال الكويت وظروف ما حدث في البحرين إلا أن القيادات الخليجية تعلم أن هذه الدسائس والمكائد لا تستهدف البحرين فقط وإنما منطقة الخليج العربي كلها.

خليجنا اليوم ليس كالأمس. بالأمس عبث الرئيس العراقي بأمن الكويت ونال ما استحقه. اليوم لم تنتظر القيادات الخليجية البحرين لكي تصبح كويتا أخرى ننتشلها لاحقا من براثن من يريد العبث بها.

اليوم، استوعبنا الدروس من النار التي اكتوينا بها جميعا عندما احتلت الكويت. واليوم قوات درع الجزيرة في البحرين لتقوم بدورها الطبيعي في الدفاع عن أمن البحرين الذي يعد أمن الخليج، وليعلم الجميع أن أمن الخليج كل لا يتجزأ.

درع الجزيرة اليوم في البحرين لم يعجب البعض، لأنه جاء كضربة استباقية تجهض أحلام الطامحين. وليس غريبا علينا اليوم أن نواجه هجوما إعلاميا شرسا عبر وسائل الإعلام الفضائية وشبكة الإنترنت التي تستخدم الناعقين والمتشردين لقلب الحقائق.

دروس الماضي علمتنا أيضا أن العالم سيكتشف عاجلا أو آجلا نوايا كل باغ يحمل طموحا غير مشروع.

مصر.. الخوف القادم

يتسم عالم اليوم بالتغيير المتسارع جدا بشكل قد لا يستوعبه الكثيرون. وبالنسبة للشقيقة مصر، لا شك عندي في أن تراكم وطفح السلبيات على الساحة المصرية (والتي أدت إلى تنحي الرئيس المصري عن السلطة) هو السبب الرئيس لحالة الترقب والتوجس التي تعيشها الأمة العربية مما تخبئه الأيام القادمة لمصر والمنطقة. مصر اليوم تمر بمرحلة تغيير لم تنجل أكثر معالمها بعد، ومن يحرك التغيير القادم ليس بالضرورة الشارع أو الجيش أو الشعب المصري. عملية التغيير هذه تتشارك وتتقاطع فيها عناصر كثيرة متشابكة بعضها متلاحم لا حل له إلا عمليات استئصال محفوفة بالمخاطر.

رغم كل ذلك نجد أن استخلاص عبر وأحداث الماضي خير معين لنا لتحديد صورة مستقبلية تقريبية لما يمكن أن يحدث في الأيام القادمة. هذه النقاط أسوقها من وجهة نظري الشخصية راجيا لمصر وشعبها الخير دائما:
أولا: في الأيام القادمة ستشهد مصر تغييرات كثيرة يكون الإعلام ساحتها. سنشهد الكثير ممن لديهم طلاقة اللسان في الظهور على الوسائل الإعلامية لا هدف لهم إلا كسب ثقة الناس لأهداف لا يعلمها إلا الله. ثبت عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم قوله: «ان أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان». الأيام القادمة سيكون الجدل فيها سيد الموقف وسيكون لأصحاب النفوذ والسلطة والتأثير وقع هائل من خلال الإعلام على الجماهير العربية وغير العربية بحيث تغطي ما يدور في مصر بشكل تعظم فيه مصالح وأجندات من يقف وراء هذه الوسائل الإعلامية. أصحاب النفوذ والسلطة والتأثير هم مديرو الشركات الكبرى عابرة القارات، وأصحاب وسائل الإعلام التي تبيع لمن يدفع أكثر، وأصحاب المليارات من أصحاب المصالح الاقتصادبة مع مصر وغيرها، وأقطاب التكنولوجيا الذين يرون فرصا وتهديدات جديدة لصناعاتهم وكبار المستثمرين الذين وضعوا ثقتهم في نظام أصيب باهتزاز، ناهيك عن أصحاب الطموحات من القيادات العسكرية والدينية والكتاب والعلماء. إن تجمع هؤلاء من أصحاب النفوذ والسلطة والتأثير يمكنهم من السيطرة على الآلة الإعلامية لتوجيه الشعوب بالشكل الذي يريدونه ليحقق في النهاية ما قاله العالم الفرنسي جوستاف لوبون: "الجماعات حتى لو تكونت من عباقرة ومتميزين إلا أنها تقاد بالألفاظ ولو كانت فارغة وتتحرك بالأوهام وإن كانت خاطئة".
ثانيا: من يظن أن "النظام السابق" قد رحل إلى غير رجعة فهو مخطىء.. الأنظمة لا تموت بسهولة، وستظل هناك العديد من "البؤر" المضادة للإصلاح تحارب وتناضل من أجل منافعها. هذه البؤر حاليا في معركة حياة أو موت مع منظومة جديدة تخطط للقضاء عليهم، ولأنهم إن لم يقاتلوا ويقتلوا فلن تقوم لهم قائمة. الأيام القادمة ستشهد تصفية حسابات داخل مصر ضد الوجوه التي تطفو على السطح لمعرفة وجوه ما تحت السطح. وجوه ما تحت السطح لن تظهر كلها لأن علائقها تتعدى حدود مصر وسيقومون بالأعاجيب لإبقاء أنفسهم مقنعين يتربصون بالنظام الجديد لاستعادة أمجادهم ولو بأشكال جديدة.
ثالثا: البعد الدولي الذي يخص دولا ارتبطت مع مصر في علائق "شريانية" ذات اتجاهين تمد النظام المصري بأسباب الحياة وتستمد من هذا النظام ما يؤمن مصالحها. ما حدث لمصر جراء الضغوط الاقتصادية الدولية شكل عبر الزمن شبكة قوية ومعقدة من المصالح والالتزامات الدولية كانت سببا في بقاء المنظومة المصرية وبوسع الدول ذات العلاقة ممارسة شتى أنواع الضغوط للحفاظ على مصالحها. مصر تغلغلت فيها قوى كثيرة تمرست على التعامل معها من خلال قوى ذات "مصالح مشتركة" لدرجة يصعب على مصر الإنسلاخ منها. مصر، رغم ذلك، في النهاية ليست دولة عادية، مصر بكل ما تعانيه لها ثقلها الخاص بها الذي يجعلها تفرض نفسها على الساحة.
مصر اليوم في مفترق الطرق وهي تحت ضغوط هائلة ويجب على كل العقلاء أن يستمعوا لصوت العقل وعدم الانسياق وراء من يريدون ركوب الموجة لتحقيق مكاسب لهم. اللهم إحفظ مصر وأبناءها من كل شر واجعلها دوما سندا لكل العرب والمسلمين.

تداعيات ويكيليكس.. البحث في السلوك البشري

أدى تسرب الوثائق السرية الأمريكية عبر موقع ويكيليكس إلى عدد من التداعيات الخطيرة التي لا يستهان بها في كثير من دول العالم. بعض الدول شعرت بصفعة قوية نتيجة عدم قيام الولايات المتحدة الأمريكية بعمل التدابير اللازمة لحماية المعلومات التي تنتقل من خلال خطوط الشبكة الحكومية لنقل المعلومات السرية (SIPRNET) والتي تعتبر العمود الفقري لتمرير المعلومات المصنفة سريا. 

ألوف التحليلات والكتابات حول دوافع وتوقيت تسريب هذه الوثائق تم ربطها بنظرية المؤامرة. من أهم التعليقات التي وردت حول هذه التسريبات ما جاء على لسان مستشار الأمن القومي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي الذي رجح احتمالية وجود أجندة خفية تقف وراءها عملية استخبارية معقدة ليس فقط لتسريب الوثائق عبر ويكيليكس، بل أيضا وراء اختيار الوثائق التي حجبت وتلك التي تم نشرها، مضيفا أن ويكيليكس حصلت على وثائق من الجندي الأمريكي الشاب المحلل "برادلي ماننج" إضافة إلى وثائق أخرى حصلت عليها أجهزة أخرى وسربتها عمدا خلف ستار الدخان الذي أثير حول هذا الجندي.
شارك في نفس الرأي ستيفن هادلي مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس بوش الذي قال "....تسربت الوثائق منذ فترة طويلة، إلا أنها لم تنشر إلا الآن، بل إن ويكيليكس أجلت نشرها عدة مرات. لماذا؟. أعتقد أن السبب الحقيقي هو أنها كانت تتعرض لفحص تفصيلي. ممن؟. لا نعرف."
شبكة الإنترنت تخرج علينا كل ساعة بمعلومات جديدة حول هذه التسريبات التي يصعب الانجراف وراءها. وسواء كانت هناك مؤامرة لتسريب هذه الوثائق أم لا، فإنني أجد من الضروري التركيز المكثف على ما قام به جندى المخابرات العسكرية الأمريكية المحلل "برادلي ماننج". الجندي "ماننج" وكان يعمل في العراق إذ يبدو مما نشر أن لديه أسبابا واضحة خلف تسريبه للوثائق. الأسباب تعتبر بمثابة محاولة انتقامية نابعة من "صحوة الضمير" نتيجة ما كان يراه "ماننج" من ظلم القوات الأمريكية فى العراق. يؤكد هذا التفسير نصوص النقاشات (الدردشة) التي تمت بين "برادلي ماننج" وبين "آدريان لامو" (أحد هواة اختراق المواقع على الإنترنت) الذي أبلغه "ماننج" بأنه قد سرب صور وثائق سرية ورسائل دبلوماسية وتقارير استخبارية وأرسلها إلى "جوليان آسانج" الذي يدير موقع ويكيليكس.
بعض تلك الوثائق في نظر "ماننج" تمثل خيبة أمل في بلاده الولايات المتحدة التي لعبت دورا مغايرا لما تزعم به. يتحدث "ماننج" عن كثير من الأمور منها أن مسؤولين أمريكيين عقدوا صفقات جانبية إجرامية – في نظره- مع مسؤولين عراقيين، وأنه لم يكن مقتنعا بالتحقيقات التي أجراها مع 15 محتجزا في العراق بسبب مواد مطبوعة اكتشف لاحقا أنها مجرد انتقادات موجهة ضد فساد الحكومة والتي ما إن كاشف في هذا الأمر رئيسه المباشر حتى وبخه الأخير وطلب منه أن يطبق لسانه وأن يساعده في احتجاز المزيد من الأشخاص.
هناك جانب آخر قد يوضح سبب سلوك الجندي "ماننج". تشير بعض التقارير إلى أنه وفي فترة سابقة قد تم تخفيض رتبته نتيجة ضربه لجندي آخر وصدر أمر بتعطيل بندقيته بعد أن شكك البعض من حوله في قواه العقلية.
في نصوص المناقشات والدردشة مع "آدريان لامو" يقول الجندي "ماننج" إنه يشعر بأنه تحول إلى مجرد حطام لشخص وحيد بائس. فقد هذا الجندي حماسه وولاءه للجيش الأمريكي كقوة داعمة للخير.
في نظري الشخصي، أن جوانب شخصية الجندي "ماننج" ومحطات حياته تستحق منا دراسة تفاصيلها إذا كان هو بالفعل وراء ما نسب إليه، وإذا كان هو بالفعل وراء هذه التسريبات، هل كانت لديه المبررات الكافية لخيانة وظيفته؟ دراسة جوانب شخصية هذا الجندي لا شك فيها دروس وعبر كثيرة لنا جميعا لما يمكن أن يبلغه السلوك البشري عندما نهمش إنسانا. لا نستطيع اليوم استباق الأحداث، لأن كرة الـ "ويكيليكس" ما زالت تتدحرج في الملعب ولا نعلم تماما ماذا سيحدث من مفاجآت قد تهز شباك تفكيرنا.

لمصلحة من ما يكتب في صحافتنا؟


لا أشك أن للصحافة "سلطة" كبيرة.. ويبدو أن حجم هذه السلطة قد تضاعف عدة مرات بفعل تأثير تكنولوجيا الاتصالات التي تضخم بشكل كبير كل ما يقع تحت يدها. في بلاد الغرب تعمل الصحافة في بيئة يمكن وصفها بالمنضبطة، حيث يكتب الأشخاص في مجال تخصصهم ولديهم نظام قضائي يكفل حقوق الناس بشكل جيد. صحافتنا السعودية، في الطرف الآخر، صحافة آخذة في النمو، معظم من يكتبون في الصحف غير متخصصين فيما يكتبون وكثيرا ما تختلط أراؤهم واجتهاداتهم وتفسيراتهم وتوجهاتهم لتشكل في النهاية بيئة خصبة للإساءة لمنجزات بلادنا. 

ما يحدث في صحافة بلادنا اليوم يستحق الوقوف عنده والتفكير في تبعاته على فكر المجتمع واستقراره. الصحافة السعودية لم تعد تعيش في بيئة منغلقة كالأمس. اليوم اتسعت مساحة حريتها وسلطتها وأصبحت تتفاعل بشكل كبير مع ما أفرزته ثورة الاتصالات والمعلومات وشبكة الإنترنت وأصبحت الكلمات التي تكتبها الصحافة تنتشر بشكل غير مسبوق للمنتديات والمدونات ووسائل الدردشة والبريد الإلكتروني وغيرها من وسائل الاتصال على شبكة الإنترنت.
صحافة اليوم أصبحت سلاحا في يد الكثيرين من الكتاب الذين قد لا يعون بشكل كامل تبعات ما يكتبون. إن ما يكتب في الصحافة يصبح لقيما جاهزا للاستغلال الفوري من قبل مرتادي شبكة الإنترنت الذين يجتزئون منه ما يشاؤون ويفسرونه حسب إدراكهم أو أهوائهم الشخصية. الكثير من كتاب المقالات الصحفية أصبحوا مشهورين بفضل منتديات شبكة الإنترنت التي تشبع إلى حد كبير رغبات الكثير من مرتادي هذه الشبكة.
كم هائل جدا من المعلومات الكاملة والناقصة والمبتورة عمدا تنتقل في عروق هذه الشبكة لينشر في المنتديات ثم يحول إلى البريد الشخصي للأفراد. بعض الأشخاص لديهم قوائم بريدية تحتوي على آلاف الأسماء الذين يتلقون كل يوم مئات الرسائل الإلكترونية. ولأن الإنسان فضولي بطبعه فهو ينتقي من عناوين الرسائل ما هو غريب. كثير منا لا يبالي بإرسال أي مادة دسمة أو تافهة إلى غيره دون أي اعتبار لتبعات هذه المادة على الآخرين الذين يتلقونها أو بأي شكل سيفسرونها أو يعيدون إرسالها لقوائم بريدية جديدة.
لقد أصبحت الصحافة مصدرا جيدا للمعلومات على شبكة الإنترنت. ولكوننا نتمتع بهامش حرية واسع في صحافتنا ولأننا نعايش أنظمة غير فعالة في مقاضاة من يسيء إلى الغير عبر الكتابة الصحفية فمن الطبيعي أن تعج بعض صحفنا بالأخبار المبتورة وغير الدقيقة التي تتلقفها وتضخمها المواقع الإلكترونية والمنتديات والمدونات الشخصية (السعودية والأجنبية) مما يؤدي إلى انعكاسات مدمرة لا تضع أمام المجتمع إلا ما ينفره ويشككه في مصداقية و ذمة كل من حوله حتى بتنا نرى كل ما أنجز من حولنا خرابات لا يعيش فيها إلا طائر البوم.
من يكتب في الصحافة كثيرون، ومنهم من لا هم لهم إلا بث التشكيك في المشاريع والبرامج الحكومية بهدف أن يتصدر اسمهم المنتديات الإلكترونية وأحاديث المجالس أو بهدف تصفية حسابات شخصية مع جهات حكومية أو لغاية في نفس يعقوب.. ولم لا وديدن بعض الصحف السعي وراء الإثارة لتحقيق الربح. النهاية المحزنة لكل ذلك أن هؤلاء الكتاب بقصد أو بغير قصد ساهموا في تقويض مصلحة مجتمع ووطن بكامله.
منجزات هذا الوطن والمواطن كثيرة وكل منجز شاركنا فيه جميعا.. كل اجتهد بطريقته وإمكاناته وقدراته ووظيفته وبحدود فهمه لما هو مطلوب منه. علينا ألا ننسى أننا حديثو عهد بالتطور والتنمية ولا أتوقع أن أحدا يطالبنا بأن نقارع من هم أكثر منا تقدما وأكثر خبرة في مجالات التنمية.
ما أنجز في المملكة حتى اليوم هو أفضل ما يمكن تحقيقه، بمعنى أننا بذلنا جهدا ونجحنا حيث نجحنا وأخفقنا حيث أخفقنا. نجحنا عندما ساعدتنا الظروف وخلصت النية، وأخفقنا عندما خانتنا الظروف وساءت النوايا. وهذا يحدث في مراحل تطور وتقدم كل بلاد العالم وليس في بلادنا فقط. لكن، أن يأتي كاتب صحيفة ليهمش منجزات هذه البلاد وليحكم عليها بالفشل فهو أحد ثلاثة أشخاص، جاهل وجب تبصيره أو مسترزق شهرة أعانه الله أو مأجور والعياذ بالله. أنا لا أرى ضررا في نشر الحقائق، لأن هذا واجب الصحافة، لكن مشكلتي مع الكاتب الذي يركز فقط على الأخطاء (لغاية في نفسه) بشكل يوحي أنها لا تحدث في أي من بلاد العالم إلا بلادنا. الأخطاء، وبمختلف أحجامها، تحدث في كل بلاد العالم وهي من إفرازات الكائن البشري وطبيعته في أي زمان و مكان.
أقول لهؤلاء، قارىء اليوم ليس بقارىء الأمس، وهو فطن ولا تخفى عليه نوايا الكاتب وتوجهاته التي تتخلل السطور. اليوم لدينا فئات رزينة من القراء لا تنطلي عليهم أساليب التضخيم والإثارة وتعرف تماما أن هذه الصحف تتملق القارىء بهذا الأسلوب، وإن نظرة بسيطة للتعليقات والردود على مقالات الكتاب تبين لنا المستوى الفكري الراقي أو الضحل لجمهور كل كاتب.

التحدي الجديد لمواردنا البشرية

يعتقد كثير منا أن جهات العمل لا يحق لها الاستفسار عن الجوانب الشخصية والمعيشية للموظف الذي يعمل لديهم. منظمات اليوم، شئنا أم أبينا، أصبحت تتنبه لأدق التفاصيل في شخصية وقيم وتوجهات كل من يعمل فيها وكل من يريد أن يعمل فيها، وهي لا تكتفي بذلك قبل التوظيف بل يمتد ذلك أيضا حتى بعد التوظيف وخاصة عند الترقية من وظيفة لأخرى. بمعنى آخر إن الموظف يبقى تحت المجهر ترصد حركاته وأساليبه في العمل وطرق تعامله مع الغير بما في ذلك التوغل في أدق تفاصيل حياته. لماذا كل ذلك؟ لأن منظومة الأعمال التي يمارسها البشر حول العالم قد تغيرت بشكل كبير وجذري. 

هذا الوضع الذي شرحته قد لا يكون واقع الحال في بلادنا لأننا ما زلنا نعاني من  نقص حاد في الموارد البشرية الماهرة في أغلب التخصصات ولا يتم التشديد في جوانب اختيار الموظفين إلا في قليل من الأماكن.
نظام العمل الذي يسود العالم الآن يختلف تماماً عما كان عليه في السابق بفعل العديد من المتغيرات، وإن التغيير المبني على أسس علمية بدأ يخترق منظوماتنا الخاصة والحكومية لا سيما وأن الشركات والمؤسسات والجهات الحكومية بدأت تدرك تماما التكلفة الباهظة لخطأ تعيين شخص واحد غير مناسب في وظيفة. منظمات اليوم بدأت تعي أن الاختيار السليم للموارد البشرية هو الذي يقود إلى النجاح لأن الأداء البشري هو الذي يفعل قدراتها لتحقيق أهدافها.
لم تعد الشهادات والدورات التدريبية هي العامل الحاسم في اختيار الموظف، فقد أضيف لها كثير من طرق الاختيار غير المرئية والتي قد لا يدركها المتقدم للوظيفة إلا متأخرا. في مقالة للدكتور صالح بن سبعان بعنوان "حين يتحدث واطئ الجمرة" (عكاظ: 06 سبتمبر 2010) اشتكى أحد الباحثين عن عمل قائلا" كل ما قدمت على عمل حكومي أو خاص واجتزت اختبارات القبول يتم استبعادي بعد المقابلة، مع العلم أنه تم قبول أشخاص تقديرهم أقل من تقديري، ولا أعلم ما السبب، ووجدت أن ما يملكه الآخرون ولا أملكه أنا هو الواسطة والمعرفة في البنك أو في الوزارة أو في الشركة." شكوى مؤلمة وفي الصميم وقد تدفع بطالب العمل إلى الحقد والنقمة على كل ما حوله.. لكن أقول قد لا تكون الواسطة هي كل شيء. لماذا؟ لأن من يقوم بالمقابلة الشخصية لديه العديد من الأدوات التي يستطيع بها كشف جوانب كثيرة من شخصية المتقدم للوظيفة، ويا حبذا لو قرأ كل متقدم للوظيفة كتابا أو كتيبا صغيرا عن أسرار المقابلات الشخصية قبل الدخول للمقابلة.
وما زلت أذكر موقفا حدث لي في العاصمة الأميركية واشنطن عندما كنت أعمل على درجة الدكتوراه. عدت يوما إلى شقتي ووجدت على الباب بطاقة غريبة على شكل مطوية صغيرة عليها شعار حكومي أميركي لمؤسسة عسكرية أميركية. وعندما فتحتها وجدت فيها ما ترجمته للعربية التالي: "هام .... لقد حاولت الاتصال بكم ولم أجدكم. من المهم أن أتحدث معكم حول الخلفيات الأمنية لأحد الأشخاص الذين نقوم بالاستفسار عنهم في أمر يدعم دفاعنا القومي. الرجاء الاتصال بي بين الثامنة صباحا والرابعة عصرا في أيام العمل الرسمية على الهاتف أدناه مع ذكر الرقم الخماسي للقضية التي أبحث فيها والمدون أدناه. وفي حالة عدم وجودي أرجو ترك رسالة حول كيفية الوصول إليكم. وشكرا..." وفي الجهة المقابلة للبطاقة وردت عبارة مطبوعة أخرى تشير إلى أن "الضابط المكتوب اسمه أدناه مطالب عند حضوره إليك بإبراز هويته وأوراقه كإثبات لشخصيته".
كانت لهذه الكلمات وطريقة صياغتها وقعا مربكا ومخيفا لم أعهده فباشرت فورا بالاتصال بالشخص الذي ورد اسمه في البطاقة الذي سارع بالرد على الهاتف وما أن عرفني قال لي بأنه سيأتي فورا إلى شقتي. وفي أقل من ساعة كان قد وصل فدعوته للدخول فجلس وبدأ الحديث طالبا ما أعرفه من معلومات حول "سلوكيات إمرة" تسكن في الشقة المجاورة لشقتي.
قلت له: تقصد السيدة التي تلبس الزي العسكري؟
قال: نعم
قلت له: لا أعرف عنها شيئا سوى أني أراها معي في المصعد!
قال: هل دار بينكم أي حديث؟
قلت له: فقط التحية العادية وأخبار الطقس بين أي ساكن وجاره
قال: هل لاحظت أي سلوك غريب في تصرفاتها؟
قلت له: كلا
قال: ألم تلاحظ أنها مثلا تقيم حفلات صاخبة أو دخول أناس غرباء إلى شقتها؟
قلت له: كلا في الواقع تبدو هادئة جدا وجافة بعض الشيء ولا أراها إلا قليلا عند خروجي للجامعة أو عند عودتي منها... ولكن لماذا تسأل؟
قال: هذه السيدة مرشحة لترقية ونحن نقوم فقط بالتأكد من بعض الأمور وهذه إجراءات روتينية عندنا.
في العديد من الأجهزة الحكومية الأميركية تتطلب الإجراءات ليس فقط التأكد من الشهادات والدورات التدريبية التي يحملها الفرد بل تشمل في كثير من الأحيان التدخل في حياة الموظف الشخصية ونمط حياته وسلوكياته في المجتمع وتصل أحيانا إلى القيام ببعض الفحوص بأجهزة كشف الكذب على الموظفين وطرح الأسئلة الشخصية المحرجة وهي إجراءات روتينية يتقبلها الموظف هناك بطواعية لأنها جزء بسيط من نظام يحترمه الجميع.
إن التفوق الذي يحرزه الغرب في جوانب عديدة لم يأت صدفة وإنما جاء نتيجة للعمل الدؤوب والشاق في بناء نظم الموارد البشرية والإجراءات المقننة التي تخدم مؤسساته الإدارية وتسهم كثيرا في استباق حدوث الأخطاء الحرجة وفي أسوأ الظروف إخمادها فور ظهورها.
في بلادنا اليوم كثير من الممارسات الخاطئة في الاختيار والتعيين، لكن أقول، وكمتابع في هذا الشأن، إن ظروفنا تتغير دوما للأفضل وبدأنا نشاهد الكثير منا ينبذ الواسطة وسيأتي اليوم قريبا بإذن الله الذي نختار فيه الأفضل ونسلم أمانة الوظائف لمن يقدرون قيمة الأمانة.