العربية

111

التحصين الفكري... حتى لا نكون ضمن أجندة الآخرين



من بين ألوان البشر لون ملفت للنظر لا يمكن أن يمر بجانبك دون أن تميزه. إنه لون شخص باهت بدون ملامح لا هدف له في هذه الحياة سوى الانقياد للغير. هذا اللون من السهل أن ترمي عليه الشباك فيقع في أسرك. ذكرني هذا اللون بأول تجربة لي في صيد السمك... عندما كنت مستلقيا على سقالة بحرية أراقب الأسماك الصغيرة المختلفة التي تتحرك في هذه المياه غير العميقة. رميت سنارة بها طعم صغير وفي ثوان علقت بالسنارة سمكة صغيرة ملونة قال لي صاحبي إنها لا تؤكل وعليك بإلقائها في الماء مرة أخرى علني أصطاد سمكة من الأسماك الأخرى. رميت سنارتي عدة مرات وفي كل مرة أصطاد نفس النوع من السمك. كان عمري آنذاك حوالي الـ16 عاما وكان تفكيري محدودا ... لكن رغم ذلك تعلمت من تجربة الصيد أن من بين الأسماك فصيلة شديدة الغباء تجري سريعا وراء أي طعم.
كبرت في السن وتوسعت مداركي وتعلمت علوما وفنونا متعددة من أهمها السلوك الإنساني. اليوم وبعد كل هذه السنين والتجارب لا أعتقد بأني قد أكون غبيا أو ساذجا لكي أكون جزءا من برنامج أو "أجندة" أي شخص آخر. قد يكون هذا الشخص الآخر داهية أو أذكى مني بمراحل ... لكن من السهل علي الآن أن أكتشف نواياه من خلال طريقة جلوسه ... من سياق كلامه ... من نبرة صوته ... من إيماءاته ... من حركة عينيه.
وما تعرض له الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز مساعد وزير الداخلية من محاولة يائسة وبائسة لاغتياله لم يأت إلا من قبل شخص باهت اللون وضع نفسه في جدول أعمال أشخاص آخرين استطاعوا اصطياده بهذه السهولة... وإلا فما تفسير إقدامه على الانتحار في شهر رمضان الفضيل وبهذه البساطة. لقد خسر دنياه وآخرته بانتحاره الذي لا أجد له تفسيرا منطقياً سوى أنه استغل وتمت برمجته بشكل بشع من قبل أشخاص أذكى منه بمراحل.
إن أي منصف وعاقل ليأسف على ما وصل إليه بعض شباب هذا المجتمع من فكر مدمر تم توجيهه لضرب منظومة هذا البلد. إن أي منصف وعاقل ليتعجب ويندهش من هذا السلوك المدمر الذي لا ينسجم مع تطلعات المجتمع السعودي للنهوض بالمجتمع وتنميته. ولقد تحدثت وتحدث غيري الكثيرون عن مصيبتنا في عدم قدرتنا على تشكيل الفرد السعودي القادر على التكيف مع البيئة المتغيرة والتي تقذف علينا شتى أنواع السلبيات حيث نجد الكثيرين منا يتسمرون مكانهم في حالة تشنج لا يعرفون ماذا يفعلون غير الوقوف سلبا أمام كل ظاهرة تمر بنا. التعليم والتدريب يستطيع ذلك ... لو أننا قمنا بواجبنا تجاه توفير احتياجات التعليم والتدريب "ضمن رؤية واضحة متفق عليها" وهيأنا لهذه الرؤية الظروف وأسباب النجاح لما وصلنا إلى هذه الحالة التي تدفعنا إلى اختيار حلول وقتية قد لا تأتي بنتائج حاسمة تضمن لهذا المجتمع الاستقرار الاجتماعي والفكري الذي ننشده.
وما تعرض له الأمير محمد بن نايف إنما يعكس حقيقة واحدة وهي أن هذه التنظيمات المتطرفة قد تقدمت خطوة إلى الأمام واستفادت من تكنولوجيا الاتصالات. يتبع هذه الحقيقة أن هذه التنظيمات ما زالت تستخدم مخرجات منظومتنا المجتمعية كوقود لعملياتها. هذه التنظيمات لا شك عندي أنها، من حيث تدري أو لا تدري، أداة لتنظيمات أكبر لا تريد بالإسلام وبهذه البلاد التي ترفع راية الإسلام أي خير. لماذا؟ لأن المملكة العربية السعودية تحوي الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين ولأن هذه التنظيمات تعلم أن ضرب الإسلام لا يمر إلا بضرب هذه البلاد ومقدراتها.
الحل في نظري يكمن في وضع "رؤية تعليمية واضحة" تمنع تخريج النوعيات المهترئة التي تقبل بكل ما يقال وتقوم بالترويج له بين أوساطها. رؤية تعليمية واضحة تستند على الوسطية التي نادى بها الشرع الحنيف وتمنع وقوع شبابنا سريعا في شراك "أصحاب الأجندات" الذين لا يريدون بهذه البلاد وأهلها خيرا. رؤية تعليمية واضحة لكافة الأطراف تضمن مخرجات واسعة الأفق والمدارك مسلحة بالعلوم السليمة وفنون السلوك البشري التي تحصنهم من الوقوع في شباك الآخرين وتمكنهم من كشف نواياهم، كما أسلفت، من بديهيات مثل سياق الحديث ونبرة الصوت والإيماءات وحركة العينين. رؤية تعليمية واضحة تجعل مخرجاتها قوية وقادرة على التمييز في الأمور وتمنع تحويلنا إلى أسماك شديدة الغباء تأكل طعم أول سنارة تلقى عليها.
هذا الوطن غال على الجميع... ومجتمعـنا كـان حرا عندما اتفق على قيادته. أما وقد اتفقنا عليها وبايعناها فإن الخروج عليها بأي شكل من الأشكال ليس من الدين في شيء. أعداء هذا الدين كثيرون ولن ينفكوا عن التربص بنا ... وإذا كانوا اليوم قد استخدموا جهل البعض من شبابنا فإنهم في الغد سيستخدمون جوانب أخرى قد تكون اقتصادية أو سياسية ... في حال نجحنا في تخريج شباب محصن لا يمكن تجنيده لمصلحة الآخرين. لكن في كل الحالات أرى أن وجود شاب متعلم ومحصن ضد التطرف خير بألف مرة لدينه وبلاده ومجتـمعه من أسـماك غـبية تخدم أجندة الغير.