
استكمالا للنقاش في المقالة السابقة "العمل في السعودية... تحت المجهر" ("الوطن": 10 أغسطس 2009) خلصت إلى أن سوق العمل المشوهة في المملكة قد أفرزت العديد من السلبيات الخطيرة التي بدأنا نلمس تأثيرها العميق في كافة مناحي حياتنا. حيث أدى عدم تحديد "حد أدنى للأجور" إلى انتفاع طبقة قطاع الأعمال بشكل مباشر على حساب طبقة الشباب الذين يشكلون النسبة الساحقة من مجتمعنا. قطاع الأعمال لدينا لا شك أنه يقوم بجزئية حيوية في التنمية... لكن يبدو أن طرق عمل ومضامين أنشطة القطاع الخاص، في نظري، تتناقض مع أبسط مفاهيم الرحمة للبشر الذين يفدون إلى بلادنا... بلاد الحرمين الشريفين. ويبدو أن طرق العمل هذه استندت على نظام عمل حكومي ساعدها على إفراز سلبيات لا حصر لها في سوق العمل السعودية. وأكاد أجزم بأن سن أنظمة تحدد "الحد الأدنى للأجور" سيكون لها الكثير من الإيجابيات التي ستنتشل مجتمعنا من اشكالاته التي بدأت تتراكم فوق بعضها البعض.
إذا قلنا بأن عدم تحديد "حد أدنى للأجور" قد أدى إلى تراكم أعداد هائلة من البشر وجدت مبتغاها وضالتها في المملكة نتيجة قصور العديد من الأنظمة مثل نظام الاستقدام ونظام متابعة المعتمرين ناهيك عن قصور الوعي المجتمعي في مسألة تشغيل العمالة المتخلفة والمنفلتة، فإن من البديهي القول بأن الشاب السعودي لن يستطيع مجاراة العامل الوافد الذي يجد ظروف العمل في المملكة مناسبة له رغم قساوتها لأنها أفضل من بلده. هذا الوضع أفرز ظروفا ساعدت على الاتكالية في المجتمع وتحقير العديد من الأعمال التي ارتبطت ببعض الجنسيات التي رضيت لنفسها أن تعمل بها وهي مرغمة على ذلك بسبب ظروف بلادها. هذا الوضع دفع الشباب السعودي للدراسة في الجامعات لأنها المنفذ الوحيد للوظائف "الراقية" التي تجعلهم بمنأى عن الوظائف التي أسهم نظام العمل في تحقيرها. هذا الوضع أسهم في زيادة الضغط على الجامعات مما أفقد الجامعات قدرتها على الاهتمام بجودة المخرجات.
مجمل هذه الظروف نجدها قد ظلمت الشاب السعودي وجعلته مضطرب الفكر ومترنح السلوك. فلا القطاع الخاص يرغب به لأن هناك من يفوق إنتاجيته وجلده في العمل من الأجانب حيث كل ما يحتاجه الوافد قليل من التدريب. هذه الظروف أيضا سدت المنافذ على الشاب السعودي حتى في الجامعات لأن المنظومة الجامعية بدأت تدافع عن نفسها من خلال آليات رد الفعل. بدأت باختبارات القياس ثم السنة التحضيرية لتضييق المتاعب التي سيوجدها الطالب السعودي غير الجدير بـ"المقعد الجامعي"... ولعل آخر هذه الآليات "المعدل الجامعي" الذي يبقي هذا الشاب على صفيح ساخن طوال فترة دراسته. ولعل من نتائج هذه الظروف ما نلاحظه على شبابنا من انتهازية في سلوكياته أفرزتها نقمته على كل ما حوله... مرجع هذه النقمة شعوره بأنه غير قادر على التكيف مع بيئته وأن العالم كله ضده. ولهذا ينفس الشاب عن غليانه الداخلي بسلوكيات شاذة مثل قيادته للسيارة بتهور وعدم الاكتراث بكل ما تقدمه الدولة والمجتمع من خدمات ومزايا، ناهيك عن شعوره بأنه ينتمي إلى جيل مضطهد سطا الجيل الذي سبقه على كل مقدراته.
الشاب السعودي والعامل الأجنبي، في نظري، هما ضحايا في الواقع لأوضاع سوق العمل المشوهة. إذا كانت أنظمة العمل قد خدمت ظروف المرحلة الماضية فإنها اليوم تتسبب في تفتيت خلايا المجتمع وتحطم آمال أكبر شريحة في المجتمع. الرواتب المقدمة من القطاع الخاص اليوم أغلبها لا يكفي لتغطية نفقات المواصلات ناهيك عن ساعات العمل المجحفة التي استمرأها القطاع الخاص طوال السنين الماضية لينتفع بها طبقة المديرين في الوقت الذي يضيقون على الطبقة العاملة والكادحة. إن الرهان على القطاع الخاص ليقود عملية التوظيف لا شك عندي فاشل طالما بقي نظام العمل كما هو. وكما قلت إن هذا النظام يخدم فئة قليلة جدا على حساب شريحة كبرى من المجتمع. القطاع الخاص في أغلب بلاد العالم قطاع انتفاعي لا يخدم إلا نفسه وخدمة المجتمع لديه لا تأتي إلا في إطار خدمته لنفسه. والرهان على القطاع الخاص في حل أزمات المجتمع رهان خاسر والرهان الكاسب هو خدمة الشريحة الكبرى من مجتمعنا لأنها الملتصقة بهذه الأرض والمنتمية لها وهي حربة هذا الوطن عند الأزمات. القطاع الخاص، باستثناء شركات محدودة جدا، لن نراها في أوقات الأزمات من حولنا لأنها ستهاجر إلى فرص وأماكن جديدة تستنفع منها بعد أن استنفذت عافية هذا الوطن ولن نرى من حولنا إلا ما شكلته أنظمتنا من شباب.