العربية

111

العمل في السعودية... تحت المجهر



تتمتع المملكة العربية السعودية بفرص عمل قد لا يوجد مثيلها في دول أخرى. هذه الميزة دفعت الكثيرين من أبناء البلاد الأخرى لبذل المستحيلات ودفع مبالغ كبيرة ورشاوى لمكاتب العمالة في بلادهم لتمرير معاملاتهم لفرص عمل لا يجدونها في بلادهم. مثل هذه الأوضاع في الخارج لم تساهم في تشويه سوق العمل السعودي فقط، بل أفرزت العديد من السلبيات التي تؤرق المسؤولين عندنا.
لتوضيح الصورة أقول بأن هناك عمالا يعملون عندنا في ظروف قاسية مقابل أجر شهري فعلي بـ300 ريال. إذا غاب هذا العامل يوماً واحداً يخصم من راتبه قيمة يومين. هذه العمالة تخضع لإشراف دقيق من قبل مراقب يجبره عمله على عدم الرحمة وعدم تقبل الأعذار. هذا العامل يقبل بهذه الوظيفة لأنها أفضل له من الموت جوعا أو مرضا وفي أفضل الأحوال التشرد في بلده. من سمات هذا العامل في بلادنا الطاعة العمياء والعمل الدائم الذي يبقيه طافيا فوق مستنقع واقعه. وللأسف نجد أن هذه الظروف قد تمت الاستفادة منها من قبل أرباب العمل لدينا من خلال الاستغلال الجائر لأنظمة الكفالة التي تتحكم بتحركات وسفر المكفول وعدم السماح له بالعمل الحر دون شريك فعلي أو وهمي. إذا انتقلنا من الوظائف الدنيا إلى الوظائف الوسطى نجد أن العدوى قد انتقلت إليها، ولو بدرجة أقل، ونجد أن ظروف القادمين إلينا تدفع رب العمل في القطاع الخاص لممارسة العنصرية ضد أبناء المملكة الذين تختلف ظروفهم في بلادنا التي أنعم الله عليها بكم هائل من الإيجابيات (والتي غالبا لا يقدرها المواطن) بعكس كثير من العمالة الأجنبية التي ذاقت الذل والهوان في بلادها في سبيل فرصة عمل. هذه الوظائف الوسطى كان يمكن أن تشغل ويقبل بها بالمواطن السعودي لو أن ظروف المواطن السعودي هي نفس ظروف الوافد الأجنبي من حيث نظام الكفالة والطاعة العمياء. النتيجة هي أن أرباب العمل دوما يفضلون غير السعودي لأنه أقل تكلفة وأقل صداعا في نظرهم.
نتج عن هذا الوضع المشوه للتوظيف في بلادنا الكثير من السلبيات التي يصعب حلها على المدى القصير والمتوسط. ولقد أدى اكتفاء الجهات الحكومية بالإصلاحات الشكلية أن بدأنا نلحظ نشوء ثقافة بث الكراهية ضد الأجانب بشكل واضح على فضاء الإنترنت والتي يدفع بها شبابنا لبث معاناتهم وضائقتهم عبر الشبكة نتيجة قلة الحيلة أمام المنافسة غير العادلة في إيجاد فرصة مناسبة للعمل. على الشبكة حاليا منتدى يمثل حملة شباب أطلقوا على المنتدى شعار "السعودية للسعوديين فقط". ويقوم هذا الموقع حاليا ببث شكوى شبابنا من وجود 8 ملايين عامل أجنبي بالسعودية أصبح لهم شوكة وقوة ساهمت في تهميش الشباب في وقت يرى شبابنا أن الأجنبي لديه امتيازات لا يحلم بها حتى في وطنه تشمل السكن والسيارة والتأمين الصحي وبدل التعليم وتذاكر سفر ولكل عائلته بينما يدفع المواطن في وظائف دنيا مثل المعقبين وبائعي محلات الخضروات والعاملات المنزليات والطباخين وحراس الأمن.
مثل هذا الموقع استفز شعور الكثيرين من مرتادي الشبكة من غير السعوديين الذين تفاعلوا معه، مشيرين إلى معاناة الكثير منهم ممن عملوا في صحرائنا القاحلة دون إعطائهم حصة كافية من غنى هذا البلد والذي لولاهم لما وصلت السعودية إلى ما هي عليه اليوم. من المقيمين من روى أن هناك سعوديات يقمن بالصرف على البيت، لأن أزواجهن لا يريدون أن يعملوا، وتساءل: ماذا سيفعل السعوديون عند رحيلنا ؟ هل سيجلبون خواجات ويدفعون أضعافاً مضاعفة. وافد آخر يقول إنه يعمل بالسعودية ويرى "وبشهادة الجميع أن المجتمع السعودي لم يرتق لمستوى العمل، إنه ما زال في الطفولة ولم يتعد مرحلة المراهقة"... "هناك محاولات ولكن كمجتمع كامل لن يستطيع أن يقوم بنهضة صناعية أو تجارية".
بعد هذا الاستعراض المستفيض يمكنني القول بأن هذه الحملة وغيرها من الحملات المتشنجة على شبكة الإنترنت إنما هي بداية لمسلسل لن ينتهي من الاتهامات بين فريقين... فريق من الشباب السعودي الذي يشكو من محاربة الغير له في رزقه وفي وطنه... وهذا الفريق لا ينظر إلى الوظائف الدنيا التي تشكل النسبة الكبرى من الوافدين... طموحهم يكمن في الوظائف الوسطى والعليا والتي يعتقدون أنهم أهل لها. والفريق الآخر يرى في هذه البلاد بارقة أمل له بعضهم ليعيش بأي أجر بدلا من أن يغرق وبعضهم فرصة لتحسين دخله.
ما يؤسف له أن الحلول التي نلجأ إليها دائما حلول سريعة لا تولد إلا أزمات مستقبلية. الحل في نظري هو إصلاح التشوهات في سوق العمل. هذه التشوهات لا يصلحها إلا تسليح المواطن السعودي بالتعليم والتهيئة السليمة لسوق العمل لتجعله منافسا قويا في الساحة. ولأننا كما نحتاج إلى سواعد أبناء هذا الوطن فإننا نحتاج إلى القوى العاملة الأجنبية. لكن استقدام الأجانب لبلادنا في ظل التشوهات الحالية لسوق العمل لن يفرز إلا مزيداً من التشوهات ولن يصلح الأحوال إلا تحديد الحد الأدنى للأجر في بلادنا. الحد الأدنى للأجور سيضبط على الأقل انفلات الأجور والشعور بالغبن وسيشيع روح الطمأنينة بين العاملين. ليس هناك أي فائدة ترجى من توظيف إنسان طالما هو يشعر بأن حقه وجهده وعرقه مهضوم. تصحيح السوق ليس سهلا... لكن يجب ألا ننسى أننا نتباهى أمام العالم بأننا ذوو ضمائر حية ومجتمعنا مجتمع الوفاء والرأفة. كيف يمكن أن ندعي ذلك ولدينا سوق عمل بهذا المستوى من قلة التنظيم.