العربية

111

خفايا عملية صنع القرار الحكومي


يعج العمل الحكومي بكثير من المواقف التي تستلزم اتخاذ القرارات التي تكفل إنجاز العمل. من هذه القرارات ما هو بسيط مبرمج ومعروف يتعلق بمشكلات بسيطة تتكرر كثيرا كل يوم، ومنها ماله علاقة هامة بقضايا حيوية ويحتاج حلها إلى النقاش وتبادل الرأي مع مستويات إدارية أخرى ومستشارين وفنيين قانونيين، وأخيرا هناك قرارات استراتيجية مصيرية شديدة التعقيد تتطلب البحث المتعمق والدراسة المتأنية والمستفيضة والمتخصصة والتي تأخذ في الاعتبار كل الاحتمالات.
ولأن القرار له تبعات كثيرة لا يمكن تصور حدودها فإن اتخاذ القرار يجب أن يسند إلى أهله من ذوي الخبرة والدراية، فكم من المنظمات والمؤسسات والشركات بل وحتى الدول ضاعت وأضاعت معها مقدراتها بسب قرار أو مجموعة قرارات بائسة تداخلت في صناعتها المصالح الخاصة تارة وقيم المشاركين عن طريق الصمت تارة أخرى.
ولنا في التاريخ عبر ودروس، فهذا روبرت مكنمارا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق وقد وقف أمام حشد من الناس يناقش كتابه الجديد آنذاك "المأساة ودروس من فيتنام". كان يتحدث أمام الرجالِ الذين قاَتلوا وواجهوا الموت في فيتنام من أجل أمريكا. وبكل هدوءِ وبرود اعترف مكنمارا بأنّه ارتكب خطأً وأن كل من شارك في المظاهرات الصاخبة ضد الحرب في فيتنام كانوا على حق. اعترف بأن فوز أمريكا في الحرب "كان مستحيلا" في فيتنام وأن الشيوعية في فيتنام لم تكن تشكل تهديدا خطيراَ على الأمن الأمريكي. بالرغم من ذلك كله لم يعتذر مكنمارا بل بررها قائلا إن متخذي القرار في واشنطن لم تتوفر لديهم الحقائق وإن من كان حول الرئيسين كينيدي وجونسون كانوا ملمين فقط بروسيا وأوروبا ولا أحد يعرف شيئا عن آسيا. "هذه الحقيقةِ" المرعبةِ نتج عنها صدمة وصمت رهيب في القاعة بين صفوف الجنود الأمريكيين الذين حاربوا في فيتنام، ولم يشق هذا الصمت إلا قيام امرأة سألت بصوتِ يَغْصُّ بالألم وعدم التصديق وزير الدفاع ''لماذا لم تستمعوا إلى الناسِ في الشوارعِ ولماذا لم تستفيدوا من خبرة الفرنسيين الذين كَانوا قبلنا في الهند الصينية، ولماذا لم تستفيدوا من العشرات من المتخصصين في الشؤون الآسيوية في الجامعات الأمريكية؟". مكنمارا ابتسم مِنْ على المنصّةِ وقال: "لكنَّهم لم يكونوا في دائرتِنا".
لكن في وقت لاحق وبالتحديد في عام 1998، صدر كتاب بعنوان "لون الحقيقة: ماكجورج بندي و وليام بندي: إخوة في السلاح" لكاتبه Kai Bird الذي فند بالوثائق الحكومية المتعلقة بحرب فيتنام، ما ادعاه العديد من الرسميين في الإدارة الأمريكية بأنهم كانوا يجهلون تفاصيل كثيرة عن تلك المنطقة ومستقبل الحرب فيها. وفصل هذا الكتاب دور من كان في تلك الدائرةِ في إدارات كينيدي وجونسون، وبالتحديد دور ماكجورج بندي مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي وأخيه وليام بندي المسؤول الكبير في الدفاع والخارجية الأمريكية اللذين كانا من دعاة محاربة ومعاداة الشيوعية َ واللذين خَدما في مواقع صنع القراراتِ التي ساقت الولايات المتحدة إلى فيتنام وأبقتْها هناك. الأخوان بندي كانا من أفضل من أنجبت أمريكا علما وذكاء وكانا مثل مكنمارا يؤمنان بالتحرر والليبرالية وبأن أمريكا يجب أن تكون قوة كبرى وأنها لابد أن تتدخل في شؤون الشعوب الأخرى لفرض مبادئها، لكنهم على خلاف مكنمارا، وهنا بيت القصيد، كانا يعرفان منذ البداية، أنه ما كان يمكن لأمريكا أن تفوز في هذه الحرب. بالرغم من ذلك، قاما وبشكل متعمد بتسخير كل نفوذهما واضعين ولاءهما الشخصي فوق اعتبارات المصلحة العليا لوطنهما وأمتهما وقذفا بالجنود الأمريكيين في المحرقة الفيتنامية.
إن سرد قصة هذين الأخوين في الإدارة الأمريكية ما هي إلا مثال واحد للمعضلات في تكوين الأنظمة التي تسمح بتداخل القرار مع المنافع الشخصية بطريقة بشعة لا تعكس إلا مصالح وطموحات أشخاص الأمر الذي يفسح المجال للمغامرين وأصحاب المصالح للتسلل إلى صفوف المخططين ليلعبوا أدوارا قد لا تمثل بالضرورة مصالح المجتمع المغلوب على أمره بل قد تجر في بعض الأحيان الويل والخراب لبلادهم من خلال ما يرسمونه من سيناريوهات وإخراجات ملائمة لمصالحهم ولما يعتنقونه من فكر ومبادئ. هذه القصة لا ترصد فقط خطورة بعض الأشخاص النافذين الذين لا هم لهم إلا تنفيذ أجنداتهم الشخصية، بل أيضا تكشف مسلسل الكوارث والأزمات التي تقع فيها أمريكا وآخرها الأزمة الأخيرة والتي يبدو أنها ستعصف بأمريكا وغيرها.
والمملكة التي اعتنت بالتعليم منذ نشأتها تزخر حاليا بالكفاءات في كافة التخصصات والحمدلله، ويشارك أبناؤها حاليا في عملية صنع القرار في كل المستويات. لكن ما يجب أن نعيه من دروس أن هذه المشاركة في صنع القرارات إنما تكون من خلال القيم والتوجهات التي يحملونها وليس بالضرورة أن تتطابق قيم وتوجهات هذا المدير أو ذاك الموظف مع قيم وتوجهات الجهاز الحكومي أو المجتمع، حيث يمكن لموظف بسيط مرتبه الشهري بضعة آلاف من عرقلة مشروع يخدم البلاد بقيمة عشرات الملايين. حجة هذا الموظف الرسمية قد تكون عدم استكمال الأوراق أو لوجود ملاحظة بسيطة هنا أوهناك. أما السبب الحقيقي فقد يكون عدم اقتناعه بالمشروع لخلل في إدراكه أوصله إلى قناعة صنعت توجهاً لديه لعرقلة المشروع.
الأفراد الذين يعملون في أجهزتنا الحكومة على درجة جيدة من التعليم والثقافة لكنهم يختلفون في مشاربهم وتجاربهم وكل له أسلوبه في العمل وفكره وتوجهاته. منهم من يفضل السكوت وتبني السلبية وعدم المساهمة بالرأي لأسباب كثيرة أو لغاية في نفوسهم، ومنهم من تخصص في تصفية المعلومات وتضخيم القضايا الصغيرة وتصغير الكبير منها، ومنهم من اكتفى بـ "زحلقة" المعاملات إلى الأعلى وضد قانون الجاذبية.