
يعاني الجسم البيروقراطي السعودي من عدد من الأعراض المرضية التي تحد من فعاليته في تنفيذ سياسات الدولة وتوجهاتها. من الأعراض التي تسهل ملاحظتها سطوة "الثقافة البيروقراطية" المتمثلة في انتشار أنماط من التفكير المقاوم والعنيد والمستمر تجاه الوظائف التي أوكلتها الدولة إلى مؤسساتها. هذه الثقافة لم تنشأ بين ليلة وضحاها وإنما نشأت بفعل عوامل كثيرة قد يكون من أهمها تكرار الأحداث والمواقف والأوضاع التي تواجه الموظف الحكومي كل يوم والتي حقنت الموظف بخبرة عالية حول الأنظمة وثغراتها ودهاليزها الخلفية لدرجة أنها دفعت فئة كبيرة من المديرين والموظفين لعدم التفكير في وسائل وطرق جديدة لتطوير خدماتهم والاكتفاء بالتقوقع داخل فضاءاتهم لأنها توفر لهم راحة البال الأمر الذي أفرز لدى الموظف توجهات وسلوكيات سلبية و "ثقافة" لا هدف لها إلا عرقلة وإعاقة أي تغيير للوضع الراهن وبشكل حول أجهزتنا الحكومية إلى بيروقراطية جامدة لا تخدم إلا مصالح وراحة أعضائها.
التفسير السابق لجمود بيروقراطيتنا في المملكة لا أشك أنه تفسير صحيح، لكنه ناقص... لماذا ؟ لأن تفسير الظواهر الإنسانية من حولنا لا يمكن حصره في زاوية واحدة. وفي اعتقادي أن هناك جوانب كثيرة لجمود البيروقراطية قد يكون أخطرها تزاوج العادات والتقاليد وطرق التفكير المحلية مع أسس ومتطلبات قيام الجهاز الحكومي لدرجة أن الكثير من مؤسساتنا الحكومية قد بنيت على أسس مغايرة ومخالفة لأعمدة ومبادئ التنظيم البيروقراطي التي وصفها عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. هذه الأعمدة والمبادئ لا أقول إنها كاملة ولا يشوبها القصور عند التطبيق ولكن أقول إن معظم هذه المبادئ لم يترك لها فرصة لكي ترى النور والتطبيق في مؤسساتنا الحكومية، حيث أسهمت ضرورات مراحل التنمية في بلادنا وظروف الأجهزة الحكومية وتركيبة العاملين فيها إلى وقوع هذه الأجهزة تحت تأثير ما يمكن أن نسميه "ثقافة الثقب الأسود" الذي عادة ما يحدث مع المجرات الفضائية الصغيرة عند مرورها بجانب "ثقب أسود" لمجرة ضخمة حيث يوجه الثقب الأسود كمية هائلة من الذرات المشعة نحو المجرة الصغيرة ويقوم بابتلاعها.
ما حدث عندنا أن عادات وتقاليد وطرق تفكير مجتمعنا استطاعت فرض السيطرة والهيمنة على بيروقراطيتنا وتحييدها وتحجيمها بشكل لا يخدم بل يفاقم ويسرمد مشاكل المجتمع.
ولتوضيح وجهة نظري هذه سأقوم باستعراض، وباختصار، ما جاء في بعض سمات وخصائص الجهاز البيروقراطي التي تم توصيفها من قبل عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر وتبيان كيفية أن تطبيقها على أرض الواقع قد أخضع للتشويه. أولا: طالب ماكس فيبر بتطبيق مبدأ "تقسيم العمل" بين العاملين وتحديد اختصاصات وواجبات ومسؤوليات كل وظيفة تناط بالجهاز الحكومي. واقع الحال يشير إلى أننا نفتقر في معظم أجهزتنا الحكومية لتوصيف وظيفي تحدد فيه مسؤولية وصلاحيات وشروط شغل كل وظيفة. بعض الأجهزة تمتلك مثل هذه التقنية الإدارية لكن أيضا لا تملك سرعة الحركة في تحديثها لكثرة الضغوط الإدارية ولأن الكثير من العاملين يفضلون عدم تحديد هذه الاختصاصات بهدف التهرب من المسؤولية. ثانيا: شدد ماكس فيبر على "ضرورة الفصل بين أعمال الموظف العامة والخاصة". واقع حالنا يشير إلى التزايد الكبير الذي تكشفه أجهزة الدولة الرقابية لسوء استغلال السلطة. ثالثا: ركز ماكس فيبر على ضرورة تصرف الموظف بطريقة غير شخصية عند تطبيق القواعد. هذه القاعدة تئن تحت وطأة مزاج وأهواء الموظفين عند التعامل مع المراجعين، حيث يحكم التعامل عوامل القرابة والصداقة والانتماءات بشكل بشع ينفر المواطن من مراجعة الأجهزة الحكومية. رابعا: طالب ماكس فيبر باختيار الموظف الأكثر كفاءة لشغل الوظيفة التي بدورها تتطلب مهارات معينة، وركز على حصول الموظف على راتب مجزي وترقية موضوعية. هذه الأسس تم اختطافها من قبل العاملين النافذين وسخروا كل القواعد والمخارج النظامية الذكية لخدمة معارفهم والمنتمين لهم. والإحصاءات الحكومية تشير إلى وجود أعداد مهولة من الموظفين يستحقون الترقية ولم يرقوا بسبب خلل التخطيط الذي تعاني منه معظم الأجهزة الحكومية.
إن وجود جهاز بيروقراطي فعال لتنفيذ سياسات الدولة أمر مهم للغاية. هذا الجهاز البيروقراطي يمكن تشبيهه بأي "ماكينة" يجب صيانتها ومراجعتها بشكل دوري للتأكد من عمل كل أجزائها بالشكل الذي صممت من أجله. وفي حالة وجود قطع مهترئة لا مناص من إزالتها وتبديلها. ويمكننا أن نتصور الأخطاء الفادحة التي تحدث في بيروقراطيتنا نتيجة عدم اكتراثنا بهذه الصيانة والمراجعة حتى استشرت الأعطال.
إن ترك البيئة تعبث في أجهزتنا الإدارية دون مراقبتها وتحجيم دور التأثيرات الضارة وتشجيع التأثيرات الإيجابية هو ما يمكن أن نصفه بـ "الخطر البيروقراطي" الداهم والقادم والذي تم توصيفه من قبل الكثيرين. لعل أبلغهم كان الأستاذ سعود عبدالعزيز كابلي الكاتب بهذه الصحيفة عندما عنون مقالته الصحفية بـ "ما أكبر خطر يهدد مستقبل السعودية؟" "الوطن" الأحد 10 أغسطس 2008م). وانتهى إلى أن أكبر خطر يهدد مستقبلنا هو "البيروقراطية". عندما طرح هذا الكاتب تساؤله قال "إنه سؤال مهم يجب أن يطرح وخاصة من قبلنا نحن الشباب الذين سنكون موجودين في المستقبل وستشكل إجابتنا عنه في الحاضر محور حياتنا."
الحلول لمشاكل أجهزتنا الإدارية ليست سحرية... يكفي أن نعي وندرك أن الموظف الحكومي هو إنسان من فصيلة البشر له شعور وأحاسيس وتطلعات وأحلام.... متى ما شعر هذا الموظف بأن الظروف من حوله غير منصفة وأنه مغبون وأنه لا يحصل على حقوقه كاملة فإنه يتحول إلى طابور خامس يعمل ضد مصالح مؤسسته. إن معالجة البيروقراطية يجب أن تكون من أهم الأولويات لأنها ستضمن لنا وللأجيال القادمة وطنا يستند عليه الجميع لمواجهة كافة الأخطار.