
أنا لست ضد أي شعب ينتمي إلى الأديان السماوية الأخرى. بل أضيف أنني لست ضد أي بشر يعيش على كوكبنا، طالما لم يناصبني العداء. لقد تعلمت من تجاربي ومن سنوات الدراسة في الغرب ومن الاختلاط بشعوب الأرض الشيء الكثير. تعلمت أن أحترم الغير حتى لو صغر شأنهم ... تعلمت أن أستمع إلى وجهات نظرهم حتى لو لم أتفق معها ... تعلمت أن الخلافات بين البشر كثيرة ولاتحصى، لكنهم في النهاية بشر مثلنا لهم قيمهم وأخلاقياتهم ولهم آمالهم وطموحاتهم التي قد نختلف معها. فوق هذا كله، تعلمت أن أفضل رصيد لي هو أن أكون قدوة لغيري كلما استطعت وأينما حططت. وعلى مقاعد الدراسة في الغرب ثقل همي لأنني استشعرت أنني كطالب سعودي لا أمثل بلدا عادياً وإنما أمثل بلدا مقدسا بزغت منها شمس الإسلام لتنير للبشرية طريقها.
من مجمل التجارب التي خضتها في أمريكا أسوق إحداها لأنها لا تعكس فقط عمق الخلاف بيننا وبين غيرنا ولكنها تسلط الضوء على مدى صعوبة الحلول الممكنة لمثل هذه الخلافات. في إحدى المحاضرات تقرب إلي شخص من فنزويلا قال لي إنه من أصول عربية وإن اسمه "حسن". في إحدى المحاضرات وجدته يكتب اسمه "Jaimie" . قلت له أليس اسمك "حسن"؟ ففاجأني بقوله إن "Jaimie" هي "حسن" . قلت له ... كيف؟ قال إنه ينحدر من جذور مصرية هاجرت للمغرب ثم استقرت في فنزويلا. عندما توغلت في أسئلتي حول تاريخ هجرته أوضح لي أنه من يهود مصر وأن اسم "Jaimie" الذي يستخدمه في أمريكا هو مشتق من اسمه اليهودي Hymie وبالعربية "حسن". عموما ليس اسمه هنا بيت القصيد. الرجل، بالرغم من حدة ذكائه ودهائه الواضحين، كان دمث الأخلاق كريما متحمسا منفتحا وحسن الاطلاع. كان يعشق اللغة العربية لدرجة أنه كلما رآني سارع في تجريب تهجئة بعض الكلمات العربية معي فأصححها له.
في إحدى صلوات الجمع والتي كنا نؤديها في إحدى القاعات التي كنا نستأجرها من إحدى الكنائس الأمريكية تحدثت مع زميلي إمام المصلى عن هذا الطالب اليهودي وكيفية دعوته للإسلام؟ اقترح علي الإمام أن أدعوه لحضور صلاة الجمعة والاستماع للخطبة الثانية والتي كانت تؤدى باللغة الإنجليزية. عندما أخبرت "حسن" بذلك شكرني على الدعوة واتفقت معه على موعد قبل الصلاة لأدخله معي للمصلى. انتظرته حسب الموعد، لكنه لم يأت ... وعندما قابلته في كافتريا الجامعة تأسف لي قائلا إنه كان في طريقه للمسجد عندما هدده طالب إندونيسي بالضرب لو اقترب من المصلى. وبينما كنا نتحدث طلب مني أن أجيبه بصراحة فيما لو كان هدف دعوتي له لحضور خطبة الجمعة هو للدخول في الإسلام. قلت له نحن أمة نحب الخير لكل البشر ورسولنا محمد ـ عليه السلام ـ دعانا لنشر الإسلام وترجمت له قوله صلى الله عليه وسلم " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " وما كنت أريد إلا الأجر من الله لو أسلمت.
عندها قال لي ... "أنا أقدرك كثيرا لصدقك وأحترمك لتمسكك بدينك .. لكن في النهاية أنا يهودي من أب وأم يهوديين والخلاف معكم خلاف قديم تراكم عبر التاريخ حتى جاءت قضية فلسطين وزادت الطين بلة. أنا حقيقة متعاطف لأبعد الحدود مع الفلسطينيين وأشعر بمعاناتهم وأتمنى أن يوجد لهم حل. لكن اليهود كلهم، وأنا منهم، نعتبر إسرائيل وطننا وملاذنا وهو جزء منا. لقد عشنا في الشتات مرات عديدة ورغم أنني أعيش في أمريكا الجنوبية إلا أنني لا أتنازل عن يهوديتي أما إسرائيل فهي في دمي وهي هويتي ووجداني ولا تتوقع أبدا أن أتخلى عنها". عندها أدركت عمق الخلاف الذي بيننا والذي لا ينفعه إلا حوار هادئ راق بين الأطراف. ما عمق هذا الخلاف يبدو أنه حالات التشنج التي نتجت بين متشدد من هنا ومتشدد من هناك لا هم لكل منهما إلا سحق وإزالة الآخر.
اليوم نحن أمام مسؤلية تاريخية تحدد مصير الأجيال القادمة من العرب والمسلمين من خلال تحكيم شرعنا الحقيقي في دعوة المخالفين لنا ... دعوة تأخذ في الحسبان أننا كلنا بشر من لحم ودم ولنا خالق واحد. قد يعتقد البعض أننا في حالة يرثى لها من التفكك. أنا أرى العكس، الإحصاءات تؤكد أن هناك أكثر من 20 ألف أمريكي يدخلون الإسلام سنويا. اسم "محمد" أصبح ثاني الأسماء الأكثر انتشارا في بريطانيا حسب دراسة نشرتها صحيفة تايمز استنادا إلى مصادر حكومية، ويتوقع لاسم "محمد" أن يحتل المرتبة الأولى قبل نهاية السنة الحالية. حيث أطلق اسم محمد في عام 2006 على 5991 مولوداً في مقابل 6928 لاسم جاك و5921 لتوماس و5808 لجوشوا و5208 لأوليفر. وقبل أشهر قليلة خرجت مجلة "تايم آوت" اللندنية، بغلاف أخضر اللون يتصدره عنوان بالعربية يقول "هل مستقبل لندن إسلامي؟". ياللعجب ... مجلة بريطانية باللغة الإنجليزية يأتي غلافها باللغة العربية!!!!!. يذكر رئيس تحريرها في تقديم العدد أن "الدين الإسلامي هو أكبر الديانات وأسرعها نمواً بين أديان المقيمين في العاصمة البريطانية"، مشيرا إلى أنه منذ التعداد السكاني الذي أُجري في عام 2001 تجاوز عدد المسلمين المقيمين في لندن مستوى 607 آلاف من أصل حوالي 1.5 مليون مسلم في بريطانيا يتحدرون من أعراق ودول مختلفة. ولاحظ أن الشكوك تزداد في مستقبل العاصمة التي "قد تتحول إلى مدينة إسلامية مستقبلاً".
ويؤكد هذا الاتجاه ماجاء في كتاب: بدون جذور: الغرب، النسبية، المسيحية، والإسلام للمؤلفين: جوزيف راتزينجر (بابا الفاتيكان الحالي "بنديكت السادس عشر") ومارشيلو بيرا (رئيس مجلس الشيوخ الإيطالي)، من أن "أوروبا تواجه الآن أزمة هوية جعلتها عاجزة وغير راغبة في الدفاع عن ثقافتها المسيحية ضد الإسلام العنيد.. كما أن انخفاض معدلات الإنجاب في أوروبا يعكس فقدان الرغبة في البقاء، حيث أن انخفاض معدلات الميلاد في الأوساط المسيحية الأوروبية يخلف وراءه فجوة سكانية يتم ملء فراغها بمهاجرين جدد من المسلمين الذين يمثلون تهديداً للهوية المسيحية الأوروبية مثلما يمثل تهديداً للديموقراطية الأوروبية. كما أن فقدان الرغبة في التمسك بالثقافة الدينية المسيحية يعكس فقدان الرغبة في حماية الأجيال المسيحية الكاثوليكية من الأخطار التي تنتظرها. وهو ما يعني أن على أوروبا استعادة هويتها المسيحية". ويخلص الكاتبان إلى أن على أوروبا أن تعمل من أجل حماية إرثها المسيحي وأن تبذل كل جهد للتأكيد على أن المسيحية أفضل من الإسلام. بل والأفضل من ذلك أن تبذل أوروبا كل ما في وسعها لمقاومة الإسلام."
إسلامنا اليوم ليس ضعيفا بل أقوى مما كان. وأمامنا فرصة كبرى سنسأل عنها يوم الحساب. التشدد والغلو في التعامل مع الغير لن يجلب لنا إلا مزيدا من الخسائر التي ستضر أجيالنا القادمة وإن أفضل حل يلوح في الأفق هو التفاهم والتعايش بسلام مع الغير. لقد دخل الغربيون الإسلام لأنهم عانوا من رأسماليتهم الجشعة وأصبحوا في تيه وضياع بسبب إفرازات حضارتهم المادية. يقول المفكر الإسلامي محمد سليم العوا، الإسلام يملك الفكرة الوحيدة المناوئة للمشروع الرأسمالي الغربي، لأنه يجمع الموازنة بين حق الله سبحانه وتعالى وبين التعبد لله في إعمار الدنيا وبين اقتسام خيرات هذه الدنيا بين أهلها جميعا. وفي حوارنا مع الغير سينظم إلينا من سيهديه الله وسيعادينا من يعادينا ... "إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا".