
أعلن رئيس الوزراء الصيني وين جياباو أن عدد قتلى زلزال إقليم سيشوان قد وصل إلى 60 ألفا وقد يتخطى الثمانين ألفا. وتؤكد السلطات الصينية أن إعادة إعمار إقليم سيشوان قد يستغرق ثلاث سنوات بعد أن أتى الزلزال على بلدات بأكملها. وقد تعهدت القيادة الصينية بتخصيص 10 مليارات دولار لإعادة إعمار المنطقة المتضررة. وتسابق حاليا فرق الإنقاذ الزمن لإعادة فتح الطرق وتشغيل خطوط السكك الحديدية لتسهيل إيصال المساعدات الغذائية. وتقول السلطات المحلية إنها بحاجة للمزيد من الخيام والمعدات الطبية لمنع تفشي الأوبئة بين مئات الآلاف من المشردين. حصيلة أخرى هي أن الزلزال قد تسبب في نزوح نحو 5.47 ملايين نسمة من منازلهم بسبب قربها من منطقة الكارثة.
كانت هذه مقتطفات مما نشرته وكالات الأنباء العالمية عن كارثة زلزال الصين، وخلف هذه الكارثة يشير كثير من مهندسي البناء إلى الفساد الذي تسرب إلى قطاع البناء وما يطلق عليه اليوم بمباني التوفو(tofu buildings) في إشارة تهكمية لهشاشة المباني التي سقطت على رؤوس أصحابها لأنها صنعت من مواد رديئة ومغشوشة بسبب غياب الرقابة في الضواحي والمدن الصغيرة والتي تغفل عن تطبيق أنظمة وكود البناء التي تطبق بصرامة في المدن الكبيرة.
بين إقليم سيشوان في الصين والطائف في السعودية تقاطعت خيوط هذه المقالة في موضوع الفساد في الأجهزة ذات العلاقة بتطبيق كود البناء. في الأولي كارثة إنسانية يصعب على بشر أن يتصورها، وفي الثانية كوارث عديدة يمكن لنا أن نتخيل حدوثها... كوارث أسبابها الفساد الذي لا جنس له. ما حدث عندنا في الطائف أشارت إليه صحيفة الوطن في عددها (2797) ليوم الثلاثاء 22 جمادى الأولى 1429، حيث يقوم حاليا ديوان المظالم بالنظر في قضية 26 متهما من بينهم موظفون في بلدية محافظة الطائف ورجال أعمال ومواطنون، وجهت لهم هيئة الرقابة والتحقيق الاتهام رسميا في قضية رشوة وتزوير واستغلال وظيفي واشتغال بالتجارة.
المعلومات المنشورة تشير إلى أن المتهمين تم ضبطهم من قبل المباحث الإدارية في محافظة الطائف حيث تم التحقيق معهم ومواجهتهم بالدلائل والقرائن، واعترفوا جميعا بما نسب إليهم. وتم تصديق اعترافهم شرعا. من جملة هذه الاتهامات أقتطف التالي والذي يتعلق مباشرة بقطاع البناء، ويمكن للقارئ الرجوع إلى العدد أعلاه لقراءة تفاصيل التهم:
* أخذ مبلغ مقابل إنهاء إجراءات استخراج رخصة لعمارة عليها مخالفات.
* رشوة مساح في البلدية مقابل التوسط لإنهاء معاملة غير نظامية.
* أخذ رشوة مقابل إنهاء معاملة إيصال التيار الكهربائي لعمارة مخالفة للنظام.
* رشوة لإضافة أطوال لأرض في مخطط.
* أخذ رشوة لقاء إنهاء معاملة عمارة مخالفة للنظام.
* دفع مبلغ لمساح في البلدية مقابل التوقيع على قرارات خاصة بعمارة.
* الإخلال بواجبات وظيفية وأخذ رشوة مقابل توقيع قرارات خاصة بعمارة مخالفة للنظام دون الوقوف عليها.
اللافت للنظر أن جملة الاتهامات هذه قد طالت العديد من الأشخاص من ذوي المراتب القيادية والفنية داخل البلدية إضافة إلى بعض من رجال الأعمال والمواطنين. وفي اعتقادي أن هذه الضربة الموفقة من قبل الأجهزة الرقابية وقيام الصحافة بنشر مثل هذه التفاصيل يعد سابقة محمودة وفصلا جديدا في محاربة الفساد على مختلف أشكاله ومستوياته، لا سيما ونحن نلمس اليوم تحركا رقابيا قويا لعل آخره خبر انزعاج رئيس ديوان المراقبة العامة مما يصدر عن المنظمات والهيئات الدولية من تقارير خاصة بتصنيف الدول وفقاً لأدائها في مجالات التنمية (الوطن 16جمادى الأولى 1429).
رغم ذلك، فإنني أرى أن محاربة الفساد في بلادنا ومجتمعنا يجب أن تأخذ في الاعتبار تحليل الأسباب التي أفرزت هذا الفساد والتي في نظري تكمن في تداعي العديد من الجوانب التنظيمية للأجهزة الحكومية والتي تفاعلت مع واقعنا وتركيبتنا الاجتماعية فتسببت في بروز الفساد للسطح.
من أهم هذه الأسباب الجوانب التنظيمية والتي تشمل تداخل الكثير من الاختصاصات والمسؤوليات داخل الأجهزة الحكومية بسبب عدم وجود توصيف وظيفي يوضح المهام أو حدود الصلاحيات وطول الإجراءات وتعقيدها مما يهيئ فرصة استغلالها ماديا، وفي كثير من الأحيان تكلف بعض الإدارات بأعباء تفوق قدراتها وإمكانياتها، ناهيك عن وجود عشرات الثغرات في القوانين والأنظمة المتقادمة مما يهيئ فرصة التلاعب فيها. يزيد هذا الوضع تعقيدا تدني مستوى الرواتب مما يؤدي إلى تبني سلوكيات غير مشروعة وافتقار الموظفين للحوافز والمكافآت التي تحسن من مستوى دخولهم وشعور الموظفين بالإحباط لعدم حصولهم على حقوقهم النظامية.
مثل هذا الواقع الإداري والتنظيمي أسهم بشكل مباشر في ضعف مواقع القيادة الإدارية وفي كثير من الأحيان تهاونها مما يتيح المجال لبروز التأثير القوي لبعض الأفراد المتمكنين إداريا على أصحاب القرار ومنح سلطات وصلاحيات قوية لبعض الموظفين بشكل يجعله يحتكر خدمة معينة ويدفعه للمساومة والاستفادة منها في أجواء من ضعف الأخلاقيات الوظيفية.
وما يزيد الطين بلة أن محصلة هذا الواقع الإداري والتنظيمي تتفاعل مع عناصر التعصب القبلي والفئوي وتفشي المجاملات باعتبارها واجبا اجتماعيا مما ينتج عنه اقتناع المراجعين بأهمية العلاقات الشخصية للحصول على الخدمة المطلوبة وما ينتج عنه التسامح مع المفسدين إداريا وغياب المساءلة العامة وعدم الخوف من العقوبة لعدم تطبيقها على الجميع.
وعليه فإنني آمل أن يرافق مثل هذه الضربة القاصمة للفساد ضربات أخرى استباقية لتصحيح الأنظمة بشكل يسهم مباشرة في تقليص أسباب الفساد ومكافحة جذوره لا محاربة ما يظهر فقط على السطح. اليوم، وإن كنا نواجه فسادا تقليديا إلا أنه من المتوقع (مع اندماجنا مع الاقتصادات العالمية الأخرى ودخول عناصر أخرى جديدة في تشكيل عجينة الفساد القادمة) أن نواجه فسادا معقدا ذا أبعاد عالمية أقل ما يقال عنه إنه يصيب المجتمعات في صميم قيمها ومبادئها بشكل يقلب موازينها رأسا على عقب. وعليه يصبح لزاما علينا تحصين جبهتنا الداخلية بالأنظمة التي تتجدد دماؤها باستمرار وبالموارد البشرية التي تعي دورها لتصبح قادرة على مواجهة أشرس أنواع الفساد.