العربية

111

خريج الجامعة ... أنين خافت




"الإنسان لا يعض اليد التي تطعمه"... إعتقاد تشبعت به ثقافتنا لفترة طويلة من الزمن. لكن مشاهدات الحياة وتجاربنا معها تشير إلى أن تأكيد هذا الإعتقاد يتطلب شروطا معينة تختلف بإختلاف الحالة. وحتى لا أفلسف الأمور فإنني أضع أمام القارئ حالة نعيشها جميعا يمكن أن تنقلب فيها نتائج الإحسان النابع من نية صادقة إلى عكس ما قصد. الحالة التي أعنيها المكافأة الجامعية التي قررتها الدولة لطالب الجامعة لكي يشق طريقه للتعلم والنجاح والتخرج. لا شك أن هذه المكافأة قد شدت من أزره ودفعته للإستمرار في الدراسة الجامعية بل قد يكون وجود هذه المكافأة بمثابة الشرارة الأولى التي أضاءت طريقه للتوجه للجامعة. ليس هذا فقط، الأدهى والأمر أن يكون هدف دخول الطالب للجامعة الحصول على المكافأة لمواجهة ظروف أسرية صعبة تسهم فيها بضع مئات الريالات هذه في سد الإحتياجات الضرورية له ولأسرته.

هذا الطالب، أيا كان وضعه، لا شك أنه يمر أثناء دراسته بظروف وإشكالات سببها الأنظمة الجامعية السلطوية التي تهمشه حتى في إختيار التخصص الذي يريد وتنتهي به بيئة يتعارك فيها ليل نهار لكي يتخرج بشخصية جديدة أقل مايقال عنها أنها شخصية مرتبكة وممزقة في واقع يصعب الإنسجام معه. هذا الطالب، وبعد تخرجه، يفيق فجأة ليجد نفسه، غالبا، بدون موارد مالية تساعده على البحث عن وظيفة يكمل من خلالها مشوار حياته المجهولة.

بالأمس كان يعتاش من مورد بسيط يقدر بأقل من ألف ريال كانت تساعده على نفقات الحياة من سكن ودراسة وملابس وكتب ومراجع وغسيل الملابس ووقود سيارة. هذا المبلغ البسيط تعود عليه وعاش في إطاره وإذا أحتاج المزيد فقد يواجه بتوبيخ أهله له لا سيما وأنه في سن تحرص معظم الأسر على عدم الإغداق على أبناءها خوفا من عواقب محتملة (هذا إن كانت ظروف عائلته المادية تسمح بذلك).

اليوم وبعد التخرج نجد أن الكثيرين يتمنون لو أنهم لم يتخرجوا من الجامعة. الأغلبية الساحقة لا تجد عملا مستقرا ومعظمهم يعيشون حالة قلق نفسي تكاد تعصف بالبقية الباقية من كيانهم. مطالبون بالبحث عن عمل والتنقل من مكان لمكان لتسليم ملفاتهم أو لعقد مقابلات شخصية أو سفر لإكتشاف منطقة عمل جديدة أو لطباعة السيرة الذاتية من جديد أو التسجيل في دورة تدريبية تزيد من فرص توظيفهم أو حتى لشراء ملابس جديدة للظهور بمظهر الواثقين من أنفسهم أو حتى هاتف جوال يسهم في إستقبال مكالمات من يريد توظيفهم.

نحن اليوم في أمس الحاجة لأن يستعيد هذا الخريج ثقته بنفسه. ثقته ببلاده التي أغدقت عليه لمدة أربع سنوات وأكثر ... ثقته بوطنه الذي لا يتخلى عن أبناءه ... هذه الثقة هي التي تجعل كل مواطن يغرد داخل سربه وضمن توجهات بلده ووطنه. إن سحب البساط من تحت أرجل خريج الجامعة تشكل أرقا لدى طلاب الجامعات ولذلك يتعمد الكثير منهم تأخير تخرجهم إلى نهاية المدة النظامية.

الحل في نظري يكمن في إستمرار المكافأة الشهرية لمدة سنتين بحد أقصى بحيث تستمر المكافأة لتعين الطالب في عملية البحث عن عمل بدلا من أن نترك كل الجهد على وزارة العمل لكي تفصل لهم الوظائف التي قد لا تتناسب معهم. بذلك نكون قد وفرنا على كثير من الجهات الحكومية أعباء وتكاليف ممارسة الضغوط على القطاع الخاص ونتيح للقطاع الخاص فرصة أفضل في التنقيب على أفضل الكفاءات التي يحتاجها.

إن إستمرار المكافأة قد يكلف ميزانية الدولة بعض الشيء لكنه يظل قليلا جدا مقارنة بما ستنفقه الدول في معالجة البطالة والأمراض النفسية التي ستنشأ ليس فقط من صد بعض الجهات الخاصة لطلبات توظيف الخريج بل لعدم قدرة الخريج على الإستمرار في دفع تكاليف البحث عن العمل مما يعني جلوسهم في البيوت عالة على غيرهم كأكوام لحم متحركة تدفع أسرهم للنفور منهم والتذمر منهم.

إزاء مثل هذا الحل قد يقف بعض جهابذة البيروقراطية ليقول: "لكن كيف نتأكد من عدم إستغلال هذه المكافأة من خلال البعض ممن يمتلكون أعمال خاصة ويدعون أنهم عاطلين؟". جوابي لهم: إن بضع مئات الريالات هذه لا تعادل شيئا من وطن يرجو وفاء أبناءه الخريجين .... ولتحرق أضعاف أضعافها إذا كانت ستوفر علينا ميزانيات ضخمة قد تصرف لعلاج المصائب التي ستنشأ من القلق والضياع والفراغ.