
عند مناقشة مفهوم "الفساد" يفرق كثير من الناس بين مفردات هذا المفهوم. فالرشاوى التي يتلقاها المسئولين الحكوميين والمحصورة في صانعي القرار تختلف عن الرشاوى التى تحدث فيما بين مؤسسات القطاع الخاص.... والرشاوي الكبيرة التى يقع فيها مسئولون في مستويات عالية تختلف عن الرشاوي البسيطة التى نسمع عنها في إدارات حكومية يعتمد عليها الجمهور كثيرا في إنهاء إجراءاتهم اليومية رغبة في تعجيل إنهاء إجراءات روتينية.
القضية في نظري أن الرشوة في أي موقع إنما هي فساد وإفساد ولايجب التهاون فيها أو التفريق بين فساد كبير أو صغير لأن كلاهما يقود للآخر. فالرشاوي الكبيرة، إضافة إلى أنها تؤدى الى إنتكاسة كبيرة في قيم العاملين وتعصف بحياة المواطنين العاديين، فإن تفشيها من شأنه أن يجهض أي محاولة لمحاربة الرشاوي الصغيرة.
هذا النوع من الفساد (الرشاوي الكبيرة والصغيرة) موجود في كل بقعة من بقاع الأرض وبلادنا ليست يوتوبيا أو إستثناءا من هذه القاعدة. بالرغم من ذلك، يتملكني شعور قوي بأن أسباب هذا النوع من الفساد له علاقة مباشرة بعدم متابعة وتحديث أنظمتنا وقوانيننا وإجراءاتنا الحكومية والتأكد من شفافيتها ومطابقتها للزمان والمكان. المشكلة أن عدم الإلتفات لتحديث الأنظمة يصيبها بالجمود الذي يلقي بظلاله على كافة جوانب التنظيم ويجعله فريسة سهلة لفخ البيروقراطية مما يدفع البعض إلى إرتكاب شتى أنواع المخالفات وهو يعلم بأن الأنظمة قاصرة عن ملاحقته أو إثبات إدانة ضده.
من أمثلة هذا الفساد الناتج عن قصور الأنظمة تحدثت جريدة المدينة تحت عنوان "صفقات وهمية وترقيات بالواسطة ورواتب لموظفين لا وجود لهم"! في عددها رقم العدد 15307 الصادر يوم الإثنين 11 صفر 1426 - الموافق - 21 مارس 2005 م عن قضية تبديد المال العام في أحد المرافق الحكومية في مدينة جدة. تقول المدينة بأن تجاوزات المسؤولين الحكوميين في عملية الهدر أدخلت جيوب هؤلاء المسئولين ملايين الريالات من المال العام بطرق ملتوية. التقرير الأولي لهذه القضية ، كما أفادت المدينة، تحدث عن تجاوزات ومخالفات منها:
• صفقات وهمية وترقيات بالجملة ورواتب تدفع لموظفين لا وجود لهم أصلا
• صرف مبالغ هائلة على مشاريع وهمية لم تنفذ، ورصد ملايين الريالات لمشاريع لم تطرح في مناقصة عامة وصرف شيك من ضمن قيمة مشروع لم ينفذ اصلا رغم اكتمال جميع الأوراق المالية حسب الأنظمة المتبعة
• عدم وجود موظف رسمي لمستودع للأثاث على ملاك المرفق الحكومي
• عدم وجود تنظيم خاص بالعهد المستديمة مما حدا بشركة خاصة لأخد بعض ممتلكات المرفق الحكومي بعد انتهاء عملها
• وجود المستندات المالية الرسمية ومحاضر ومذكرات الاستلام لدى المقاولين لتعبئتها من قبلهم، رغم أن النظام يحظر ذلك، إضافة إلى تأمين الإحتياجات بطريقة عشوائية دون دراسة للاحتياجات الفعلية
• تجاوزات في التوظيف والترقية ومنح العلاوات التي تصل لبعض الموظفين ما بين 400-2700 ريال. حيث اتضح ان هناك حوالى 30 موظفا وموظفة تم توجيههم للعمل خارج المرفق الحكومي
ليس بالطبع هدف هذه المقالة تقليب مواجع هذا الجهاز الحكومي أو ذاك بقدر ماهي تسليط الضوء على هذه الحالة المثالية التي تصور، وبدقة، وضع أي جهاز حكومي تسند إليه مهام وواجبات دون إيجاد التنظيم المناسب له والقوى البشرية المدربة التي تستطيع أن ترفع هذا التنظيم وطموحاته لأرض الواقع بدلا من توفير البيئة الخصبة لإبتلاع وتبديد الأموال.
وحتى نفسر هذا الكلام نقول بأن الأنظمة والقوانين واللوائح والإجراءات التي تعمل في إطارها معظم الأجهزة الحكومية قد تقادمت بشكل مخيف لدرجة أنها دفعت المدراء للإلتفاف عليها لتحقيق المطلوب منهم في أعمالهم. وهذا الإلتفاف بلا شك يخلق بيئة جديدة من التنظيمات الغير رسمية والرديفة التي تسند هذه الأنظمة والقوانين واللوائح. وهناك عبارة مشهورة متداولة في الأجهزة الحكومية تسمى بـ "المخرج النظامي". هذه العبارة أوجدت طبقة من الموظفين الجهابذة من العارفين بالأنظمة ودهاليزها يستطيعون توفير غطاء نظامي وتكييف لكثير من الإشكالات التي تعترض المسئولين الحكوميين وبطريقة تجعل أجهزة الرقابة غير قادرة على ممارسة عملها. من إفرازات هذه المخارج النظامية أنها لا توفر لكل الحالات بل لبعض الحالات الخاصة مما يكرس المحاباة في التعامل والتفرقة بين متلقي الخدمة والميزات.
الحالة التي فصلتها جريدة المدينة هي بلاشك خروج صارخ لما تعودنا عليه... هي حالة فساد إداري نتج عن سوء استخدام النفوذ العام لتحقيق أرباح خاصة ويمكن وضع هذه الحالة في إطار مايسمى بالفساد المؤسسي والذي تشير بعض الدراسات والإحصاءات إلى أن حجمه في الوطن العربي يبلغ ما مقداره 300 بليون دولار. الجانب الإيجابي لهذه الحالة أنها دعوة عاجلة لنا لتنقية وتصفية أنظمتنا مما أعتراها من جمود وصدأ. قد يكون أحد أسباب حدوثها إستغلال تقادم الأنظمة وأحيانا غفلة الجهات الرقابية لإنشغالها بالحجم الكبير لأنشطة الأعمال الحكومية. أحد الكتاب يقول "المسألة في النهاية ليست فقرا أو غنى فهناك أغنياء لصوص، وفقراء شرفاء، والعكس صحيح، لكن المهم أن استمرار الفساد المالي والإداري قد دمر العالم العربي وأنه لا عاصم اليوم من الطوفان إلا بوقف هذه الآفة الملعونة."