
يمثل تقرير التنمية في العالم (2004) الذي يصدره البنك الدولي سنويا مصدرا مهما للمعلومات للمهتمين والباحثين في حقول التنمية. وقد جاء هذا التقرير ليسهم في زيادة فهمنا لآفة الفقر واسبابها وكيفية العمل على مكافحته. ويجيء هذا التقرير ملهما لكثير من صناع القرار لصياغة إستراتيجيات فاعلة في مجالات التحرر من المرض والأمية (أهم وسائل من الافلات من براثن الفقر). وركز هذا التقرير على ضرورة تقديم الخدمات الأساسية التي يحتاجه الفقراء وبالذات خدمات التعليم والرعاية الصحية والمياه النظيفة والصرف الصحي والكهرباء لما لهذه الخدمات من تأثير بالغ وحاسم في تمكين الفقراء من القيام بدور فاعل في تشكيل مصيرهم وتنمية مجتمعاتهم.
التقرير شمل العديد من صور البؤس والعوز التي يعيشها فقراء العالم والتي تجسد أعضاءا مريضة من جسد الإنسانية والتي لو تركت بدون علاج لأثرت في بقية الأجزاء السليمة لهذا الجسد. من هذه الصور القاسية، تقول (الماكسا) وهي فتاة في سن الـ 13 من اديس ابابا اثيوبيا "علي ان احضر الماء أربع مرات يوميا في جرة مصنوعة من الطين سعتها 20 لترا... هذا عمل شاق... لم اذهب قط الى المدرسة اذ علي ان اساعد امي في عملها على غسل الملابس بالاجرة لتتمكن من جني المال الكافي ولا يوجد مرحاض في بيتنا لو استطعت تغيير حياتي لرغبت حقا بالذهاب الى المدرسة واقتناء المزيد من الملابس." ومن المشاهد المأساوية والصور القاتمة التي صنعها الفقر في جسد الإنسانية مايلي:
• الطفل الفقير العادي في ريف مالي يضطر للسير على الأقدام مسافة ثمانية كيلومترات لكي يداوم في مدرسة ابتدائية.
• المرأة في ريف تشاد تسير على قدمها مسافة 23 كيلومتراً للوصول إلى عيادة طبية.
• يفتقر بليون شخص من مختلف مناطق العالم إلى القدرة على الوصول إلى مصدر مياه نظيف، كما يفتقر 2.5 بليون شخص إلى الصرف الصحي.
• في قرية أدابويا في غانا ينبغي على الأطفال السير مسافة أربعة كيلومترات للوصول إلى المدرسة حيث أن المدرسة القائمة في هذه القرية خربة تحتاج إلى إصلاحات ولا يمكن استخدامها في فصل الأمطار.
• في قرية بوتريرو سولا في السلفادور، يشكو القرويون من سوء خدمات مركز الرعاية الصحية الذي لا يفتح أبوابه سوى يومين في الأسبوع وحتى الظهر فقط.
• في منطقة موتاسا في زمبابوي كان الرد على بعض الأسئلة في استقصاء للنسوة اللاتي أنجبن أطفالهن في مراكز الرعاية الصحية الريفية هو أنهن تعرضن للضرب على أيدي موظفي هذه المراكز أثناء وضع مواليدهن.
• في زيارات عشوائية إلى 200 مدرسة في الهند، لم يجد الباحثون أي نشاط تعليمي في وقت الزيارة في نصف هذا العدد من المدارس. وحوالي 45 في المائة من المعلمين في إثيوبيا يتغيّبوا على الأقل يوماً واحداً في الأسبوع و10 في المائة منهم يتغيّب لمدة ثلاثة أيام أو أكثر.
• بلغت نسبة التغيّب بين الأطباء في بنغلاديش 74 في المائة.
يؤسفنا بالطبع أن نشاهد هذه الأوضاع في عالمنا الذي نعيشه ولكن يؤسفنا أكثر أن هناك حكومات تعاني من هذه الأوضاع المأساوية رغم بعض الحلول التي بين يديها ولاتفعل شيئا حيال مجتمعاتها بل حتى نجد أن بعضها ينخر الفساد أطرافها. وبالطبع فإن مثل هذه الأوضاع ليست غريبة على منطقتنا العربية بل إن مثل هذه الظروف مرشحة للتفاقم فيها حيث تتراوح البطالة في الدول العربية بين 14 و20 مليون عاطل عن العمل، وتسهم هذه البطالة المرتفعة وانخفاض الأجور في زيادة حدة الفقر، وتواجه معظم الدول العربية تحديات خطيرة بسبب زيادة وتيرة العولمة والاندماج في منظومة التجارة العالمية.
ما يراه خبراء البنك الدولي أن بوسع الحكومات والمواطنين ان يؤدوا عملا أفضل من خلال وضع الفقراء في صلب عملية تقديم الخدمات وتمكينهم من مراقبة ومحاسبة وضبط سلوك مقدمي الخدمات وزيادة نفوذهم في تشكيل السياسات من خلال زيادة الحوافز التي تمنح لمقدمي الخدمات لتشجيعهم على خدمة الفقراء.
وفي الوقت الذي نرى أن تطبيق مثل هذه الرؤية تستلزم وقتا طويلا فإن الطريق إلى تطبيق مثل هذ الرؤية يستلزم إصلاحا تنظيميا يأخذ في الإعتبار إيجاد بيروقراطية تقوم على تطبيق القانون على قواعد مستقرة ونظم خدمة مدنية تقوم على الجدارة وضوابط تحد من التوسع في السلطات التقديرية للمسئولين. مثل هذه البيروقراطية يجب أن تستخدم موارد المجتمع بطريقة اكثر فعالية لتعمل لصالح الفقراء من خلال التركيز على الخدمات التي لها علاقة مباشرة بالتنمية البشرية مثل التعليم والرعاية الصحية والمياه والصرف الصحي والكهرباء مما يمكن من تقييم خدمات تحسين حياة الفقراء.