العربية

111

الخاسرون في سوق الأسهم ومسؤولية الدولة






المراقب لأوضاع وسلوكيات الفرد السعودي خلال فترة الانخفاض الحاد الأخير في مؤشر الأسهم السعودية يستطيع أن يلحظ مدى عمق التغيرات والتشوهات التي أصابت هذا الفرد. علاقة هذا الفرد مع بيئته أصبحت متوترة للغاية لدرجة أن الكثير منهم امتهن لعب أدوار تحقق الفائدة لنفسه دون أي التفاتة لمصلحة الآخرين. سوق الأسهم يوضح لنا بجلاء ما قصدته من هذه المقدمة. كثيرون كانوا على دراية كبيرة بأن خصائص منظومة سوق الأسهم (والتي لم تكتمل وتنضج بعد كما يجب) كانت كافية لأن تطلق العنان لكثير من الناس لاحتراف أدوار جديدة وطرق عجيبة هدفها فقط أن تصطاد شباكهم أموال ومدخرات الآخرين. تحولت ساحة الأسهم إلى حلبة من نوع جديد يأكل فيها صاحب الذكاء الشيطاني الساذج الضعيف الذي دخل السوق بعفوية وبراءة. كثيرون من أفراد المجتمع السعودي وبالذات صغار المستثمرين لسان حالهم اليوم يقول فقدنا بيوتنا... لا نعلم ماذا نفعل؟... فقدنا كل شيء... الخسائر تعدت الأموال إلى الخسائر في الأرواح. البعض منهم يزيد ويقول... هناك أياد خفية تريد تطفيش الناس من الأسهم... مفردات جديدة دخلت حياتنا مثل تفخيخ السوق... ذبح السوق. في مثل هذا الموقف الكثير منا لا يريد أن يلتفت إلى سوء إدراكه للأمور وأخطائه وسوء تقديراته. الكثير منا لا يريد أن يعترف أنه دخل سوقا يتسم بخطورة عالية. الكثير منا اعتقد أن الجلوس في صالات التداول وسماع الأخبار والنصائح من شخص يجاوره أو من متخصص في حركة الأسهم كان كافيا لفهم أبجديات السوق. الكثير انطلق من إدراك عميق بأن الدولة (مع زيادة دخلها بسبب ارتفاع سعر البترول) تريد أن تسعد المواطن وأن تزيد من دخله فأوجدت سوق الأسهم لكي "يربح فقط". الكثير منا عندما شاهدوا بأعينهم الحالات الاستثنائية من الثراء السريع للبعض أكدت لهم أن هذا هو توجه الدولة وأن الفرصة سانحة أمامهم وأن من لا يستغلها فسيندم طول حياته على عطاء الدولة السخي الذي لم يغترف منه. هكذا سار الكثير في هذا الطريق الصعب الذي ظنوه سهلا يسيرا! جاءت هذه الضربة قاصمة لظهور الكثيرين لتضيف بعدا وهما جديدا لإشكالية الفرد السعودي الذي أكاد أجزم بأنه ليس فقط لا يحسن قراءة واقعه الذي يعيشه بل ويصر على العيش في واقع آخر لا يمت بصلة لواقع العالم اليوم. واقعنا الجديد يقول إننا في بؤرة الثقب السود للمنظومة العالمية بكل دقائقها وتفاصيلها شئنا أم أبينا... هذه الدقائق والتفاصيل تعمل ليل نهار وتفعل أفاعيلها في مجتمعنا بطريقة لا يمكن أن يدركها إلا عقل يتفاعل معها. واقعنا يقول إننا إن لم نتفاعل مع هذه الدقائق والتفاصيل بطريقة تحقق لنا أفضل المكاسب فلن ننجح أبدا في التكيف مع البيئة الجديدة ولن يكون مصيرنا إلا الانقراض. وأخيرا واقعنا يقول إننا قصرنا كثيرا في توعية مجتمعنا والأخذ بيده لاستيعاب هذه التحولات من حوله. كثير منا اكتسب بشكل أو بآخر القدرة على التكيف والتفاعل مع الوسط الجديد... لكن الأغلبية منا مازالت تسير بدون بوصلة تنظر للدولة وكأنها مسؤولة عن رفاهية كل صغيرة وكبيرة في حياته.منذ أن بدأت عجلة التنمية المخططة في بلادنا في عهد المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز كان هاجسه المواطن السعودي. قال عبارة مشهورة حينذاك لا أتذكرها حرفيا ولكن فحواها يشير إلى (أننا استطعنا أن نحصل على كل مسببات التنمية من أدوات وتجهيزات وأبنية وطرق وسيارات وطائرات ومستشفيات... إلا الإنسان الذي يحتاج إلى وقت طويل لتنميته). وقتها كنت طالبا في الجامعة ليس لديه إلا إدراك تلك المرحلة من عمري. تخرجت ثم تابعت الدراسة في الخارج ثم أصبحت أستاذا جامعيا وتوسعت مداركي كثيرا مع المعرفة والتجارب ومرور السنين. أذكر أنني (وبحكم تخصصي في الإدارة العامة) قلت في إحدى محاضراتي إن الموظف الحكومي مسؤول عن أداء واجباته بمهنية محددة تحددها الوظيفة التي يشغلها وإذا لم يكن قادرا على ذلك فعلى الجهاز الحكومي ألا يبقيه في محله وأن يحضر من هو قادر على أداء المهمة كاملة. لماذا؟ لأن هناك جمهوراً من البشر يتوقعون أن تقدم لهم هذه الخدمة والدولة مسؤولة عن توفير هذه الخدمة من خلال موظف يتمتع بمواصفات شغل الوظيفة. حينها استنكر طالب من الطلاب كلامي هذا وقال بعصبية... أين يذهب الموظف هذا؟ الدولة مسؤولة عنه! وقتها أدركت أن الطالب مازال مشبعا بإدراك خاطئ لوظيفة الدولة.اليوم وبالنسبة لسوق الأسهم السعودي فإنني لا أرى فارقا كبيرا بين نظرة الكثيرين من أفراد المجتمع ونظرة ذلك الطالب حول وظيفة وواجبات الدولة في خلق مواطنين أقوياء يعتمدون على أنفسهم في تحصيل رزقهم. للأسف مازال الكثيرون يؤمنون بأن سوق الأسهم ما هو إلا جزء من مشروع كبير لرفاهية المجتمع كله. حتى بيان المجلس الاقتصادي الأعلى الذي شدد مؤخرا على الدعم الكامل للإجراءات التي قامت وتقوم بها هيئة سوق المال لتنظيم السوق وحماية المستثمرين وما تلاه من قرارات إيجابية فسرها كثير من المتعاملين في السوق بأنها تدخل حكومي لإنقاذ السوق. لم يدركوا بعد أن هذه القرارات تمثل تحريكا نفسيا بعيداً كل البعد عما يمكن أن يفسر بإنقاذ المستثمرين الذين خسروا في السوق.بالطبع كل ما ذكرته لا ينفي وجود مشاكل وتحديات كثيرة لدى الأجهزة الحكومية ذات العلاقة بسوق المال السعودي والتي أتمنى المسارعة في حلها وتخفيف وطأتها. لكنني أعود وأشدد على أننا في حاجة لمزيد من الجهود الخارقة لتوعية وتثقيف هذا المواطن بدوره لأن هذا الزمن الذي نعيشه أصبح المواطن غير الواعي يكلفنا الكثير... تماما مثل الشخص الذي يسبب ثقوبا كثيرة في سفينة المجتمع التي تبحر في هذه الأيام في بحار صعبة جديدة علينا.