العربية

111

مسؤولية الدولة في تطوير أجهزتها الحكومية




عندما أنظر إلى مؤسساتنا الحكومية ينتابني شعور يختلط فيه الرضا مع التوجس. شعور بالرضا لأننا استطعنا تحقيق العديد من الإنجازات في مجال البنية التحتية وما يشملها من مبان وتجهيزات وشبكات اتصالات عالية الكفاءة والدقة إضافة إلى بنية بشرية متعلمة ومدربة تدريبا جيدا للقيام بأعمالها والأدوار المطلوبة منها. شعوري بالتوجس ينبع من طريقتنا في التعامل مع البنية التنظيمية لهذه الأجهزة الحكومية التي مازالت تراوح مكانها وتجبرنا على العيش في بؤرة من العشوائية البائسة التي ما زالت تبث التوتر والقلق والإحباط في نفوس المراجعين لها، حتى إنني أكاد أجزم بأن هناك مرضا جديدا بين المواطنين تحت مسمى "رهاب الأجهزة الحكومية" والذي من علاماته أن المواطن يمقت بل يصيبه توتر وحالة قلق عند مجرد التفكير في مراجعة بعض الدوائر الحكومية في بلادنا. ما نتطلع إليه هو بنية تنظيمية سليمة تكون محور عملية الإصلاح الإداري الذي نعول عليه كثيرا في دفع كل الأجهزة الحكومية لتقوم بدورها في عصر العولمة وفترة ما بعد انضمامنا لمنظمة التجارة العالمية. وتحديدا هي تلك الأنظمة والقوانين والإجراءات الواضحة التي يفترض أن يعلم بها كل متعامل معها والتي تطبق على الجميع بدرجة من المساواة بعيدة عن الوصاية أو العلاقات الشخصية أو تبني أي أفكار مسبقة عن المراجعين. لماذا؟ لأن مشكلتنا تكمن في أن هذه البنية التنظيمية، رغم كل ما تحقق من خطوات تنظيمية، مازالت تحتاج إلى دفعة قوية تضع كل نظام وإجراء موضع التنفيذ من خلال معاملة منضبطة ومقننة مع المراجع أيا كان مواطنا أو مقيما، مهما أو عاديا. الإفرازات التي نراها في سلوكيات الكثير من موظفي الأجهزة الحكومية ترجع، في نظري، إلى تقصيرنا في تجديد وتحديث "البيئة التنظيمية" بما يتفق والمتغيرات التي تحدث في مجتمعنا. لم نعبأ، للأسف، بتحديث هذه الأنظمة فكانت النتيجة أنظمة مغلقة لا تعترف بالتجديد، عديد من موظفيها استحوذوا على سلطة "تفسير الأنظمة" و "تقدير الأمور والظروف" وأخضعوها لمزاجهم الشخصي تاركين المراجع في حالة من الترنح وحيرة أمام هؤلاء الموظفين وأنظمتهم. وفي مثل هذه الأجواء لم يكن مستغربا انتشار "تبادل الخدمات والمنافع" بين الموظف الذي يقدم الخدمة والمستفيد الذي سيستفيد من هذه "الحلحلة". أما بقية عباد الله من المراجعين، بالنسبة لهذا الموظف فهو نظامي يلتزم بتطبيق الأنظمة والقوانين حتى لو لم يكن مقتنعا بها. بيئة العمل هذه (في ظل تعطيل تحديث الأنظمة) سببت جمودا وكراهية للموظف الحكومي بسبب التسلط والفوقية التي يمارسها مع المراجعين. القصص والشكاوى التي نقرأها كل يوم في صحفنا تؤكد حجم معاناة المواطن مع العديد من الأجهزة الحكومية. أبعاد هذه المعاناة ومضامينها لا يمكن حصرها وهي تطال كل المجتمع السعودي بطوله وعرضه. هذه السلوكيات' في نظري، لا يمكن كبحها إلا من خلال ترسيخ "بنية تنظيمية" قوية لا تسمح لمثل هذه السلوكيات بأن تنشأ أصلا. وتنطلق هذه "البنية التنظيمية" من فرضية أن "الموظف العام" إنما قد تم استئجاره لتقديم خدمة محددة مقننة نظاما لا لخدمة نفسه من خلال استغلال الظروف التي حوله بأي شكل من الأشكال. إن عدم اهتمام بعض أجهزتنا الحكومية بـ"البنية التنظيمية" سيدفع المديرين فيها لتقديس هذه الأنظمة والقواعد والإجراءات المعوقة لأنها تقلل أعباءهم عندما يريدونها كذلك وللالتفاف حولها في ظروف أخرى عندما يرون أن ذلك يخدم مصالحهم الشخصية. المشكلة لا تقف عند هذا الحد بل إنه في ظل هذا المناخ لا يجد الموظف السوي الأمين ملاذا له سوى الإحجام عن المشاركة كاتبا على مستقبله الانكفاء في إحدى الإدارات المنزوية التي لا يسند إليها إلا الأمور البسيطة. إن سيادة مبدأ الالتفاف حول الأنظمة بدلا من إصلاحها وتعديلها يصعب عملية الإصلاح الإداري ويفتح الباب لمزيد من الالتفافات وترحيل التفكير في عملية إصلاح "البنية التنظيمية" إلى القيادات الإدارية الجديدة التي سترث كل هذه الإشكالات.إن التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية والثقافية وتوقعات واحتياجات المستفيدين من الخدمة تستوجب العمل الجدي لتغيير الهياكل التنظيمية والأساليب التشغيلية للأجهزة الحكومية بشكل يمكنها من القيام بدورها المطلوب بكفاءة وفاعلية عالية. ويبدو أن كثيرا من الأجهزة الحكومية ما زالت تزاول أعمالها بفكر وأساليب قديمة. القرن الحالي لن يترك المجال لأي جهاز حكومي يمارس شؤونه كيفما شاء. كلنا شاهدنا ما حدث لخدمة الهاتف السعودي عندما كان المواطن "يستجدي" خدماتها وكيف هي خدماتها الآن وشاهدنا نفس الموظفين وقد غيرت سلوكياتهم البنية التنظيمية الجديدة. أعتقد بأن ولاة الأمر في بلادنا لن يرضيهم استمرار هذا النمط من الأساليب والعمليات التي لا تحقق أهداف الجهاز الحكومي. وأعتقد أننا سنرى قريبا مظاهر جديدة ومتعددة لتحول كبير في أجهزتنا الحكومية ... أجهزة حكومية تعمل بأساليب عمل لم نعهدها في السابق ... أساليب تسخر فيها تكنولوجيا الحاسبات الآلية لضبط الجودة في أداء الخدمة العامة يحترم فيها الوقت والجهد البشري. أساليب لن يكون فيها مكان لموظف حكومي يحضر للعمل متأخرا ثم يقوم بتعطيل المراجعين لحين انتهائه من وجبة الإفطار ثم التكرم عليهم بالنظر في قبول أو رفض معاملاتهم حتى تقترب الساعة من الثانية عشرة ظهرا ليستأذن بحجة خروج زوجته من الوظيفة والأولاد من المدرسة ... في وقت يكون فيه أحد المراجعين قد قطع مئات الكيلومترات من مقر عمله لينهي معاملته.