العربية

111

ما أسهل تطبيق النظام




حملت إلينا بعض الصحف مؤخرا خبرا مدعوما بالصورة لمعلم مفصول يحتج بلافتة تطالب بالإنصاف من إدارة التعليم. هذا المعلم احتج على قرار فصله من العمل بطريقة جديدة أثارت دهشة زملائه وبعض المارة في الشارع حيث توقف المعلم أمام مبنى إدارة التربية والتعليم في الدمام حاملا لافتة كتب عليها (أطلب الإنصاف من إدارة التعليم الآن). وحسب ما ذكرته صحيفة الوطن فإن قصة هذا المعلم تتلخص في أنه قد "تم تحويله من العمل معلماً للغة الإنجليزية إلى كاتب درجة ثالثة، وترتب على ذلك تخفيض راتبه من 12 ألف ريال إلى 5500 ريال". وكان رد فعل المعلم تجاه هذا الإجراء الذي حصل له في عام 1422هـ أنه رفض الوضع وتغيب عن العمل مما أعطى إدارة التعليم بالدمام المبرر لطي قيده وحسب النظام. هذه الحادثة في نظري الشخصي لها مضامين كثيرة يصعب اختزالها في "رفض المعلم للقرار وتغيبه". إنها قضية تمس الموظف الحكومي عندما يقرر رئيسه مصيره في هذه الدنيا. إنها قضية متراكمة تعكس الوضع المتردي لعملية اتخاذ القرارات في العديد من مؤسساتنا العامة عندما يلجأ قليلو الحيلة من المديرين إلى تطبيق النظام (أيا كان هذا النظام) متناسين أنهم في مواقع قيادية تفرض عليهم اتباع طرق استثنائية في معالجة توجهات موظفيهم حتى عندما تكون سلبية. ما تمخضت عنه هذه القضية من قيام المعلم المفصول باللجوء إلى لفت أنظار الجميع إلى مأساته من خلال اللافتة المكتوبة إنما يدفعنا للتساؤل ... ما الذي أوصل هذا المعلم إلى هذا السلوك الصارخ الذي لم نتعود عليه؟ وفي نظري أن صحيفتي الوطن والحياة قد أحسنتا صنعا بنشر هذه القصة مدعومة بالصورة فور حدوثها لكي نعي ما يحدث من سلبيات بين جدران هذا الوطن لنسعى للتقليل من تأثيرها. صورة المعلم التي نشرتها الوطن تعطي بلا شك مؤشرا قويا إلى أن بلادنا تعيش عصرا جديدا يتسم بالشفافية وعصرا يؤكد تضييق الخناق على السلوكيات البيروقراطية السلبية التي ما زالت تزخر بها بعض الأجهزة. الصورة الأخرى التي نشرتها صحيفة الحياة تعطي مؤشرا آخر للطريقة المثالية وحسن تعامل رجال الدوريات الأمنية بالدمام في تطويق الحالة واحتواء المعلم. وبالرغم من أن ما نشرته الصحيفتان من خبر وتحليل وصور بليغة لا يعطي كل الحقيقة إلا أنني أتساءل عن مدى صلاحية الكثير من المسؤولين وعلى مختلف المستويات الإدارية في الأجهزة الحكومية للاستمرار في مناصبهم. لأن ظهور حالة مثل هذه على السطح إنما يشير إلى افتقار مثل هؤلاء المديرين للحكمة والتبصر وحاجتهم إلى جرعات تدريبية مكثفة في السلوك التنظيمي وكيفية التعامل مع المرؤوسين. مشكلة هذه الحالة وغيرها تكمن في نقص الشفافية الذي يولد لدى الكثير من المرؤوسين إدراكا خاطئا يفسرون به مواقف وقرارات رؤسائهم. وأعتقد أن جزءا كبيرا من الحل يكمن في ضخ مزيد من الشفافية والتمتع بقدر كبير من المواجهة في حل المشاكل بدلا من المراوغة في إدارة البشر بحيث نقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت. وحتى لا أكثر في التنظير الأكاديمي ... أقول إن واقعنا كبشر يجعلنا في كثير من الأحيان نخطئ في اختيار الأشخاص ... حيث تلعب الظروف دورا كبيرا في اختيار الأشخاص للمواقع القيادية ونكتشف في بعض الأحيان لاحقا أنهم ليسوا إلا محظوظين ومتسلقين و من ذوي اللسان العذب. المشكلة أن لديهم السلطة وفي كثير من الأحيان يتخذون قرارات كثيرة من شأنها أن تعصف بمستقبل موظف هنا أوهناك. في الجانب الآخر هناك مشكلة "إدراك" المرؤوس لمثل هذه القرارات وطريقة استيعابه وتفسيره لها. ونتيجة لقلة خبرة مثل هؤلاء المديرين في السلوك البشري، فقد يدفعون موظفيهم لإدراك الأمور بطريقة خاطئة الأمر الذي يجعل الموظف سلبيا نتيجة اعتقاده بأنه مظلوم وصاحب قضية يجب أن يحارب من أجلها. إن إدراك وتفسير البشر للأمور من حولهم بطريقة خاطئة هو أمر طبيعي وعادي... وإن إدراك وتفسير المرؤوسين الخاطئ لقرارات رؤسائهم أيضا هو أمر طبيعي وعادي عندما لا تكون هناك شفافية في التعامل مع المرؤوسين. لكن غير الطبيعي وغير العادي هو وجود بعض الأشخاص في مواقع قيادية تتطلب مواصفات استثنائية فبعضهم لا يعي أبجديات السلوك البشري وكيفية التعامل مع المرؤوسين ودوافعهم وتوجهاتهم وإدراكهم.
ولأن الشيء بالشيء يذكر أجد من المفيد الإشارة إلى ما حدث قبل أيام لأستاذ جامعي عندما لم يحضر الامتحان النهائي اثنان من طلابه في الوقت المحدد. الأستاذ كان حريصا مع بداية كل فصل دراسي على أخذ رقم هاتف جوال كل طالب لديه. عندما لم يحضر الطالبان قام بالاتصال بهما فوجدهما تائهين يبحثان عن قاعة الامتحان فأخبرهما عن مكان القاعة فحضرا مسرعين خائفين متوترين فكانت كلمات الأستاذ أبوية ومقدرة لظروفهما فأديا الامتحان في جو سليم ومطمئن. ولك عزيزي القارئ أن تتخيل نوعية خريجي الجامعة لو أن هذا الأستاذ أو كل أستاذ في الجامعة أصر على "تطبيق النظام". النظام الذي نتعامل معه نحن صنعناه ونعلم تماما أنه وضع لمعالجة حالات عامة. وتبقى كثير من الحالات الخاصة كألوان الطيف تتعدد ألوانها تحت ما يسمى بـ"السلطة التقديرية" للمسؤول. مشكلتنا أن الكثير ممن منحوا مثل هذه السلطة الإدارية يتسلحون بالنظام حسب رغباتهم. إن أثمن شيء على هذه الأرض هو الإنسان الذي كرمه الله عز وجل وعلينا أن نقدره وأن نعطيه حقه لا أن نشوهه أو نلقي به في الضياع. تكريم هذا الإنسان من قبلنا جميعا مهم لنا جميعا وإلا علينا أن نستقبل المزيد من الحالات التي تخرج عن كافة الأطر المعروفة في مجتمعنا.