العربية

111

التعليم بالترفيه





قبل مدة من الزمن دخلت إحدى المؤسسات ووقفت كغيري في الطابور. فجأة اقترب شخص مني مرحبا بي وطالبا مني مرافقته إلى مكتبه. كان طالبا من طلابي الذين تخرجوا منذ فترة طويلة. القصة ببساطة أنه عرض عليّ إنهاء معاملتي في تلك المؤسسة وأنا في مكتبه. بالطبع هذه قصة عادية تمر بأي أستاذ قابل أحد طلابه. غير العادي أن هذا الطالب السابق، وأثناء حديث مطول معي، قال لي أرجو أن تسامحني إذا قلت لك بأنني لم أستفد من المادة التي درستها لي الشيء الكثير ولم يعلق بذهني إلا تلك النصيحة التي نصحتها لنا. قلت له أي نصيحة؟ قال لقد قلت لنا... لا تتوقعوا عندما تتخرجون أن تستمتعوا بالسباحة في بحيرة جميلة صافية المياه تحفها الأشجار الجميلة والورود من كل الجوانب. إنكم، أيها الطلاب، ستسبحون في مستنقع مليء بالتماسيح والأفاعي ولن يعرف التعامل مع هذه المياه إلا من كان عارفا بخصائصها. أكمل الطالب حديثه وقال... "أغلب مناهج الجامعة لم يكن لها تلك الفائدة التي أملناها. ما يعيش في صدورنا إلى الآن هو ما تخلل تدريسكم لنا من تجاربكم ونصائحكم والأمثلة التي كنتم تستخدمونها لتوضيح المفاهيم العلمية الجافة.... أنا الآن في هذا المستنقع ولولا تحذيرك لي لما استطعت أن أستمر في عملي".
تذكرت هذه القصة وأنا أقرأ إحدى المقالات العلمية عن "التعلم" من خلال استخدام الرسوم الكاريكاتيرية في التدريس الجامعي لحث عملية التفكير ومهارات النقاش في الفصل الدراسي. تقول المقالة إن استخدام المحاضر للفكاهة والطرفة والرسوم الكاريكاتيرية يكثف الانتباه لدى الطالب ويزيد من اهتمامه ويحفزه على التعلم والإبداع واكتشاف قدرات ومسارات فكرية جديدة. وتؤكد المقالة ما ذهب إليه الكثيرون المتخصصون في التعليم العالي وأحدهم جي بيجز مؤلف كتاب "التعليم من أجل نوعية التعلم في الجامعة" الذي يقول إنه لو أردنا تحقيق قدر كبير من تفاعل الطلبة معنا في عملية التعلم فإنه يتوجب علينا أن نحفزهم على استخدام أعلى مستوى في عملية الإدراك لديهم".تستند المقالة، أيضا، إلى عدد من الدراسات العلمية التي تشير إلى أن استخدام الفكاهة اللفظية أو عن طريق عرض الرسوم الكاريكاتيرية في التعليم يسهم بشكل كبير في المحافظة على انتباه وتركيز الطالب أثناء المحاضرة... بل إن عددا من الدراسات أظهر أن قياس الأداء لدى الطلاب ارتفع وتحسن عندما يقدم المحاضر أحد المفاهيم العلمية ثم يتبعه بمثال أو رسم فكاهي تمهيدا لشرح مستفيض لهذا المفهوم. أما بالنسبة لنا في المملكة فإنني أستطيع القول بأن هذا النمط من التعليم بدأ يشق طريقه بخطى متواضعة غير منظمة وباجتهادات شخصية وما نحتاجه فعلا هو تأسيسه وتقنينه بشكل سليم حتى لا يأتي بنتائج غير مقصودة. حيث يلاحظ أن بعض أساتذة الجامعة وفي بعض التخصصات يستخدمون تجهيزات العرض الإلكتروني المتوافرة في الفصول الدراسية والحواسيب المحمولة لعرض صور مختارة من شبكة الإنترنت ورسوم كاريكاتيرية من الصحف السعودية لإيصال مفاهيم علمية محددة إلى ذهن الطالب. فعلى سبيل المثال نجد أن مفاهيم إدارية مثل "تقسيم العمل، وحدة الاتجاه، وحدة الأمر، الانضباط، المركزية، روح الفريق، تدرج السلطات، المصلحة العامة، السلطة، المسؤولية، المساواة" كلها يمكن اختيار صور أو رسوم كاريكاتيرية تستطيع النفاذ إلى ذهن الطالب بشكل يزيد من استيعابه لهذه المفاهيم ويقلل من إجهاد الأستاذ والملل والسآمة التي تصيب الطالب. لقد أحدثت ثورة الإنترنت العديد من التغييرات في مجال التعليم العالي وقد استفادت دور النشر في الغرب من هذه الشبكة فوضعت الكتب الدراسية بالكامل في الشبكة وأقنعت الطلاب بشراء نسخة من الكتاب لكي يستطيعوا الدخول إلى موقع الكتاب للحصول على حالات دراسية وملخصات وعروض إلكترونية ونماذج عديدة من أسئلة اختبارات افتراضية... كل ذلك وضع للطالب لكي يستطيع استيعاب المنهج والمفاهيم العلمية بالصورة المطلوبة. التجربة الغربية موجودة بالكامل على صفحات الإنترنت ولدينا في الجامعات السعودية تجارب عديدة غير معروفة للجميع ولدى كاتب هذه السطور تجربة متواضعة. ما نحتاجه فقط هو دراسة ما هو متاح أمامنا للوصول إلى أفضل صيغة في التدريس الجامعي في وقت بدأت فيه عجلة التغيير تتسارع بشكل لم نألفه وفي وقت ما زال الكثير منا يحاضر بالطريقة التقليدية مستخدما السبورة والقلم لإيصال المعلومة للطالب.التعليم بالترفيه صرعة جديدة يحتاج تطبيقها إلى وجود منظومة متكاملة من الكفاءات والتجهيزات والنظم المساندة. وهي فوق كل ذلك تنطلق من جهد فردي مخلص يسخره الأستاذ الجامعي في البحث ومتابعة كل جديد. هذه المتابعة بدأت تتآكل كثيرا لأسباب كثيرة معروفة لنا جميعا... بدأنا نرى الملل والسآمة ينتقلان من الطلاب لأستاذ الجامعة الذي يعاني من وطأة الكثير من الضغوط التي تحاصره في سبيل تأمين حياة كريمة له. الطالب مازال يشتكي من الظروف التي وجد نفسه فيها... هذه الظروف لم توفر له حتى أبسط حلم يمكن أن يحلم به وهو وظيفة تقيه شرور عواصف المستقبل... وبين الأستاذ والطالب احتارت العملية التعليمية وأخشى ألا تجد مكانها فتظل هي الأخرى... ويبقى مستقبل التعليم الجامعي مفتوحا لكل الاحتمالات.