العربية

111

ظل فهد بن عبد العزيز



في حياة الأمم والأفراد لحظات إستثنائية قاسية لا تلبث أن تنقلب رأسا على عقب عندما يسخر الله من عباده من يقف ليؤازر ويسهم في تغيير موازين الأمور. مثل هذه الوقفات تشعر الإنسان بالرضى وتزيد من إيمانه بعدل وقدرة الخالق عز وجل. مواقف كهذه لا تنسي تفاصيلها ... تظل محفورة في الذاكرة وتطوق الأعناق مدى الحياة. مساعدة الآخرين وإدخال السعادة إلى قلوبهم في لحظات الشدة من قيمنا الإسلامية ويسعى الجميع لتحقيقها... لكن جوهر المساعدة تكمن في الأثر الذي تتركه هذه المساعدة ... وقمة العطاء عندما يكون تأثير هذه المساعدة تحولا جذريا في حياة إنسان أو مستقبل أمة ... مثل هذه المساعدة عادة لا تأتي إلا من نمط نادر من البشر.

القصة التي سأسردها قصة عادية وهي واحدة من عشرات بل مئات الآلاف من القصص التي يتغنى بها الناس ليس في بلادنا بل جميع أقطار العالم ... قصة نمط نادر من الرجال ولاه الله أمر أمة فأفنى حياته وماله في العطاء. إنها قصة طالب تخرج قبل ثلاثين سنة من الجامعة .... كانت أمنيته أن يحصل على وظيفة معيد بالجامعة تمكنه من إكمال الدراسات العليا. مشكلة هذا الطالب أن أحد أساتذته لم تعجبه بعض الكلمات التي كتبها في ورقة إجابة الإمتحان النهائي فشطب على كل الورقة ووضع عليها صفرا بالرغم من درجة الإمتياز التي أعطاها هذا الأستاذ للطالب في الإمتحان النصفي. لم تقتنع إدارة الكلية بما فعله الأستاذ لكنها وصلت إلى حل وسط وهو أن يشارك الطالب في حفل التخرج وأن يدخل بعدها إمتحان الدور الثاني على أن يقوم أستاذ آخر بتصحيح الإجابة.

مرت الأيام وشارك الطالب مع زملائه فرحة حفل التخرج ودخل الإمتحان ونجح ... فرحته لم تكتمل لأن مشكلته كانت أن جميع وظائف "معيد" بالجامعة قد تم شغلها بمن تخرج من الدور الأول .. أما هو وبقية الخريجين فقد أرسلت ملفاتهم لديوان الخدمة المدنية لتوجيههم للدوائر الحكومية حيث كانت الأنظمة تشدد على عمل الخريجين في الحكومة لفترة تعادل مدة الدراسة الجامعية، وحتى لو رغب في السفر للخارج للدراسات العليا فإن إدارة الجوازات لا تمنح تأشيرة خروج للسفر (آنذاك) للدراسة في الخارج إلا بعد تسديد تكاليف الدراسة الجامعية لخزينة الدولة.

أيقن هذا الطالب أن أحلامه في الدراسات العليا قد تبخرت حتى هداه الله إلى أن يرفع رغبته لولي عهد المملكة فهد بن عبد العزيز الرجل الذي أشتهر عنه حب العلم والعلماء. جاءه هذا الطالب راغبا في وظيفة معيد في الجامعة فما كان من ولي العهد إلا أن أبتعثه للدراسة على نفقته الخاصة تفاديا لأي خلخلة نظامية في أنظمة الخدمة المدنية جراء إستحداث وظائف جديدة. درس هذا الطالب وتحصل على الماجستير ثم عمل بالجامعة محاضرا ثم أبتعثته الجامعة للدكتوراه فسافر وعاد بالدكتوراه وعاد ليعمل في الوظيفة التي كان يريدها ... وما زال حتى اليوم يعمل في المهنة التي أرادها والتي أحبها.

هذه القصة في نظري عادية... لكن مضامينها مهمة. شخص شعر بأن الظروف لم تنصفه فأنصفه فهد بن عبد العزيز.... إنها مآثر رجل مسئول علم بأن القوانين والأنظمة والإجراءات هي من صنع بشر وهي دوما تعالج حالات عامة.... أيقن بأن هناك حالات خاصة تستدعي شكلا مغايرا من التعامل تخدم ظروفا إستثنائية إنسانية لا تستطيع الضوابط الرسمية إحتوائها. كان في إستطاعته عدم الإلتفات لها، لكن ثقل المسئولية والأمانة دفعاه للصرف عليها من نفقته الخاصة. لم ينفق من جيبه الخاص على التعليم فقط بل شمل كافة مناحي حياة الإنسان... أمهات وآباء وأطفال شباب وكهول كلهم يدعون لفهد بن عبد العزيز أن ساعدهم في وقت ضيق.

رحل فهد بن عبد العزيز وغاب عنا... لكنه لم يمت ... ترك وراءه الملايين في داخل هذا الوطن وفي خارجه يتغنون بكرمه وفضله على الصغير والكبير ، على الفقير والغني، على الضعيف والقوي. لم يكن ملكا ... كان أبا للجميع .. لنا ولغيرنا من شعوب الأرض ... سخره الله عز وجل لتغيير موازين الأمور عندما هب لنجدة أمم كاملة من أمم هذه الأرض. لقد ترك فهد بن عبد العزيز آثارا لا يمكن أن تنسى... أستظل بظله الجميع حتى تعب... ولهذا جاء في بعض الآثار "السلطان ظل الله في أرضه" وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. ويذكر أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى إذا أحب عبداَ نادى جبريل إن الله يحب فلان فأحب فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في أهل السماء أن الله يحب فلان فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض.