العربية

111

العيب ليس في بيروقراطيتنا... بل في أنظمتنا






بين الفينة والأخرى نقرأ في صحفنا الكثير من الانتقادات اللاذعة لواقعنا الإداري والتنظيمي دونما أي تفسير مقنع لأسباب الأزمات الإدارية التي نعيشها. نعم... هناك سلبيات كثيرة موجودة في معظم دوائرنا الحكومية إلا أنني على قناعة تامة أن أسباب هذه السلبيات ليس فقط لأن هناك سوء نية مبيتة لدى بعض قيادات هذه الدوائر الحكومية أو العاملين فيها، بل لأن الجسم البيروقراطي نفسه يخلق أنواعا كثيرة من المشاكل ويضيفها إلى المشاكل التي نخلقها نحن في هذا الجسم. تماما مثل الكولسترول الذي يصنعه الجسم البشري حيث يصنع الكبد حوالي 80% من مجموع الكولسترول في الدم بينما يأتي 20% من المصادر الغذائية التي نأكلها. في يقيني أن مشكلتنا الرئيسة تكمن في أن الكثير منا يجهل خواص وطبيعة حركة وعمل الأجهزة الحكومية البيروقراطية. ولهذا نحن نتعامل مع البيروقراطية وكأنها مصطلح اجتماعي أو سياسي بسيط... في حين أن البيروقراطية في واقع الأمر ظاهرة بالغة التعقيد. ولتبسيط الأمور أقول إن الكيانات البيروقراطية مثل الكائنات الحية تعمل كالبشر... وهي تهضم وتمتص ما يدخل في جوفها من أشياء... فإن كان ما تمتصه نافعا وسليما كان ما تخرجه نافعا وسليما والعكس صحيح. نحن لا نرى في هذه الكيانات التنظيمية البيروقراطية، في أفضل الأحوال، إلا ما يظهر لنا من أهداف وبناء تنظيمي وعلاقات رسمية وتقنيات مستخدمة وموارد بشرية واقتصادية ومهارات وقدرات. وبناء عليه فإن الكثير منا يعتقد أن مشكلات البيروقراطية يمكن حلها بضخ مزيد من المال أو بتأمين تجهيزات أفضل أو بتعيين كفاءات عالية. لكن مالا نراه في هذه الكيانات جوانب كثيرة جدا يصعب علينا تحليلها وتفسيرها في كثير من الأحيان. هذه الجوانب غير مرئية ويتمثل معظمها في تفاعلات الجوانب السلوكية للنفس البشرية التي تعمل داخل هذه التنظيمات وما تحمله هذه النفس من اتجاهات وأفكار ومشاعر متقلبة تتمثل في صراعات ونزاعات بين الأفراد والمجموعات تؤثر في أشكال التعاون الهادف بين الأفراد والمجموعات والعمليات. هذه التفاعلات التي تحدث بين مفصلات وتركيبات هذا الكيان التنظيمي هي المسؤولة عن إفرازات أنظمتنا البيروقراطية. وعليه فإنني أجزم أننا نحن من قمنا بحقن شرايين هذه البيروقراطية بمختلف أنواع النظم الإدارية والمالية القاصرة والتي كان يفترض تطويرها، ونحن من ابتعد عن قيمنا الإسلامية الصحيحة وسمحنا لعاداتنا الاجتماعية وتقاليدنا لتتداخل في عمق نسيج العمل الرسمي حتى ولدت عجينة بيروقراطية تشربت كل أنواع الفساد والتسيب واللامبالاة والتسلط والتمسك بالروتين بشكل غيب العدالة الوظيفيّة. نحن من ترك الحبل على الغارب لنحصل في النهاية على لوائح وقوانين جامدة وإجراءات روتينية منفرة لا تسهم إلا في مزيد من تعطيل العقل البشري. وإذا كنا جادين في إصلاح هذه الأوضاع فإنه يجب علينا أن نصلح أولا البيئة التنظيمية التي تعمل فيها هذه الأجهزة الحكومية، وأقصد بذلك النظام المالي ونظام الخدمة المدنية لأنه يقف وراء معظم مشاكلنا ومعاناتنا. هذان النظامان رغم ما طرأ عليهما من تعديلات طفيفة إلا أن واقع تطبيقهما يجيء معرقلا لأي حركة تطويرية تريدها أية جهة حكومية. وأصبحت فقرات النظامين كالسيف المسلط على كل جهة تريد أن تبدع أو تنتج... والنتيجة أن كثيرا من الجهات الحكومية تلتزم بحرفية النظام لكن مع التفتيش الدؤوب عن "المخارج النظامية" التي تسهل أداء عملها وفي نفس الوقت تستهلك الكثير من الوقت الذي كان يفترض أن يخصص لأمور أهم.وفي يقيني أن إعادة تأهيل هذين النظامين (مهما كانت كلفته) أفضل ألف مرة من العيش داخل جلبابه. الأمم لا تتقدم إلا بواسطة أنظمتها التي تستطيع أن تحملها من موقع متأخر لموقع متقدم. والفرق بين النجاح والفشل دوما هو في وجود الوسائل والترتيبات التنظيمية المناسبة لتحقيق الأهداف.