.jpg)
تمر مجتمعاتنا بتغيرات عنيفة ومتتالية تؤثر فينا بأشكال مختلفة. من هذه التغيرات ما هو متعلق بإحتياجتنا التي لا نستطيع إشباعها إلا عن طريق غيرنا ممن يعملون في قطاعات أخرى، مثل إستصدار رخصة قيادة أو رخصة بناء أو دخول لمدرسة معينة أو لجامعة أو لنقل زوجة أو أخت من منطقة لأخرى. بروز هذه الحاجات لدى الفرد تحدث توترا نفسيا يدفعنا للتحرك السريع لتأمينها ... وهذا شيء طبيعي. لكن المشكلة أن هذه الحاجات لاتلبى بشكل تلقائي لأسباب كثيرة قد تكون تنظيمية أو بيروقراطية أو فقط لمجرد أن صاحب الحاجة لم يستوفي شروط الحصول عليها. ولأن من سمات تنظيماتنا الداخلية عدم الفعالية والكفاءة فإن المشكلة تكمن في أن كثير من المسئولين يحجمون عن إستخدام صلاحياتهم التقديرية لمنح صاحب الحاجة ما يحتاجه. ليس هذا فقط بل قد يتمادى البعض ممن لديهم سلطة حل الأمور بتعقيد المسائل بهدف مقايضة وتبادل الخدمات مع شخص آخر لديه صلاحيات في جهة أخرى.
مجتمعنا السعودي للأسف قد أصابه الكثير من شظايا هذه الآفة وأصبحنا تلقائيا نتلهف للتعرف على أصحاب النفوذ ومراكز القوى في مختلف القطاعات الحكومية والخاصة بل أصبحنا نتباهى بمعرفتنا بأشخاص لهم علاقات أخطبوطية في كافة المجالات. مثل هذه الممارسات المقيتة تعدت حدودها حتى أختلط الحابل بالنابل وأصبحت نسبة كبيرة من المجتمع تمارس "تبادل المصالح" دون حياء وكأنه أمر عادي لا غبار عليه ضاربين عرض الحائط الأنظمة والقوانين والإجراءت التي وضعت للتعامل مع كافة الناس بسواسية.
أصبحنا للأسف نعيش عالما غريبا بعيدا عن القيم الإنسانية السوية التي تحض على مساعدة البشر بعيدا عن المصالح الذاتية ... أصبح الكثير منا لا يسير في خدمة إلا إذا توقع أن يتلقى خدمة فورية أو لا حقة. في نقاش لي مع أحد طلابي الذين يعملون في أحد الأجهزة الحكومية المتعلقة بإصدار بطاقات تم تقنين صرفها بنظام معين ... قال إذا أتاني شخص وقد سبق له أن أدى لي خدمة فإنني و"على رقبتي" ملزم بتسهيل كافة الأمور له حتى يحصل عليها رغم علمي بأنني أتجاوز هذا التقنين. أصابتني إجابته بصدمة لأنني أكتشفت أن كل التعليم الذي نقوم به في الجامعات لم يستطع تغيير فكر وسلوكيات هذا الطالب. بالطبع سيتخرج هذا الطالب بشكل أو بآخر وسيترقى لا بفضل شهادته الجامعية فقط بل بفضل سلوكه الأخطبوطي في مقايضة المصالح مع الآخرين في بيئة مجتمعية لا تجرم مثل هذه الأعمال بل تعتبرها دينا وحقا يتوجب تنفيذه.
التغيرات التي أصابت مجتمعنا كثيرة جدا وهي تشكل تحديا كبيرا يتوجب علينا التفكير والتمعن فيه. إن إنفتاحنا على العالم جاء دون أن نعد العدة اللازمة للتعامل معه. هذا الإنفتاح ساهم كثيرا في طوفان عارم للقيم المادية التي غزتنا وأبعدتنا عن فضائل الأخلاق حتى شاعت اللامبالاة وتليف الضمير وقام الكثيرين بالتضحية بالمبادىء والقيم وسهل عليهم إراقة ماء الوجه عند طلب الحاجة وبرزت في الواجهة قيم الفهلوة والإنتهازية والتملق والتزلف والمداهنة واللهث وراء العلاقات القوية مع النافذين حتى هان لديهم كل غال وأصبح معيار النجاح هو دفع أي ثمن في سبيل الإحتفاظ بما حققه من مكتسبات.
في نظري أن مقايضة الخدمات بهذه الصورة ليست إلا "رشوة" محرمة يقترفها اليوم الكثير منا بقصد ومع سبق الإصرار. هذه الآفة تولد الكثير من الضغوط والظلم والقهر لمئات بل ألوف الحالات كل يوم، وعدم إكتراثنا بأهمية إقتلاعها وتجريمها سيكون ثمنه باهضا على هذا الجيل والأجيال القادمة. نحن بحاجة لتأهيل تربوي وعلمي وسياسي ولا بد للمجتمع من أن يتغير من خلال الأنظمة والعقوبات الصارمة لأن السكوت على هذا الخلل المجتمعي سمح لهذه الآفة أن تخترق جميع طبقات المجتمع حتى أصبح من أخطر أنواع الفساد.
نحن بحاجة ماسة لبناء الشخصية السعودية المنتجة وإعادة الاعتبار لقيمة العمل الجاد التي تعتمد على قيمنا الإسلامية التي تبعدنا عن الإنتهازية والتملق والتزلف والمداهنة والتي لا تنتهي إلا بإراقة ماء الوجه عند طلب الحاجة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اطلبوا الحاجات بعزة أنفس فإن الأمور تجري بالمقادير))، ((من تضعضع لغني لغِناه فقد ذهب بثلثا دينه)).