.jpg)
قبل سنوات عديدة وبالتحديد في نهاية 1998م كتبت مقالة أتساءل فيها عن مدى حتمية "العولمة". في تلك الفترة كان ينتابني شعور قوي بأن مؤسسات الدولة المتمثلة في أجهزتها البيروقراطية لن تتخلى عن دورها بسهولة وستظل تقاوم التهميش الذي يرافق عولمة الإقتصادات. شككت كثيرا في مقولات ذبول وظيفة الدولة وقلت بأن الأمر لن يتعدى التحول النسبي في طريقة أداء الدولة لوظيفتها. كنت ميالا للاعتقاد بأن التناقضات الداخلية للعولمة ستقوم بكبح جماح الطوفان العولمي الذي نشهده العالم. اليوم للأسف لا تقوم الحكومات في معظم الأحيان بأية محاولة جدية في العمق للتصدي للمشاكل التي سببتها العولمة الإقتصادية ... بل يكاد يكون استسلاما بدون شروط! تجاه هذا الاستسلام لا أملك اليوم إلا الاعتراف بأننا ندخل مرحلة جديدة من تاريخ البشرية تتسم بتغلغل الوجه القبيح للعولمة الإقتصادية... لماذا قبيحة؟ لأنها لا تتمتع بأي إحساس إنساني لقضايانا ومشاكلنا كبشر وهي في أحسن الأحوال لا تمثل كل البشر بل تمثل مصالح القوي الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
قرأت كثيرا عن المآسي التي تخلفها العولمة الإقتصادية في إقتصادات الدول، لكن من أكثر ما شدني طرح البروفيسور ألبير جاكار (ALBERT JACQUARD) عالم الأعراق البشرية ونظم الوراثة الفرنسي الذي يمثل اليوم الضمير الفرنسي. ألبير جاكار يرى أننا كبشر يجب نتحسس آلام الآخرين وعذابهم وفقرهم ليكون لنا وزن في مقياس الأخلاق والمثل العليا. ويوجه كلامه لأميركا والغرب بشكل عام ويتساءل ... ما نفع قوة الغرب طالما أنهم يتبعون سياسة لا إنسانية تجاه الآخرين؟ وما معنى ثروته الطائلة إذا كان الآخرون يموتون من الجوع في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ومناطق أخرى؟ وما معنى الحضارة المادية من دون الحضارة الأخلاقية والمعنوية؟ ويستطرد ... بأن أخطر شيء في العولمة الحالية هي أنها تتم لصالح الدول الكبرى الغنية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. وبالتالي فهي تزيد الغني غنى والفقير فقراً... من خلال الشركات الكبرى التي تغلغلت وسيطرت على الاقتصادات المحلية للدول وانتهكت سيادتها وكرامتها وساهمت في تجويع الملايين في افريقيا السوداء والعالم الإسلامي وآسيا وأميركا اللاتينية.
فوق ذلك كله يطالب ألبير جاكار الولايات المتحدة الأمريكية بدفع ديونها لأفريقيا السوداء لأنهم نقلوا في القرنين السابع عشر والثامن عشر ثلاثة ملايين من السود إلى أميركا وعاملوهم كعبيد واستغلوهم لعدة أجيال لزراعتها وفلاحتها واستصلاح أراضيها. وفي حسبة بسيطة يقول، إذا ما حسبنا ان سعر بيع كل أفريقي مئة يورو، فإن المبلغ المتجمع يصل إلى ثلاثمائة مليار يورو بعد حساب الفائدة المتراكمة طيلة قرنين ونصف من الاستغلال. وعليه يرى ألبير جاكار بأن الولايات المتحدة الأميركية يتوجب عليها أن تدفع هذا المبلغ فوراً للأفارقة وأن تساهم أوروبا في دفع الثمن ايضا لان تجارها هم الذين نقلوا العبيد إلى أميركا.
طرح ألبير جاكار ليس الوحيد على الساحة بل أن هناك طروحات أخرى تحذر الغرب من التمادي في هذا النمط الجائر للعولمة وتؤكد أن هناك ردة فعل قوية بدأت في الظهور تشير إلى زيادة ضغوط القوى الإنسانية والنقابية والسياسية المضادة للعولمة الشرسة. من هذه الطروحات من يرى بأن الرأسمالية وقعت في فخ شراهتها ستسرع من قوة تدميرها من الداخل. هؤلاء يصرون على أن النظام الرأسمالي بالرغم من ازدهاره إلا أنه في الوقت نفسه هش وقابل للخراب ... لماذا؟ يقولون بأنها رأسمالية بلا مشروع لا تستثمر ولا تهيئ نفسها المستقبل. إنها رأسمالية شريحة قليلة من أصحاب النفوذ يطلبون من الشركات أرباحاً أكبر باستمرار مما يدفعها للاستثمار لمدد قصيرة لا تساهم في أي تنمية حقيقية وإنما تزعزع إقتصادات البلدان لأنها تنقل نشاطات شركاتها من بلدانها إلى البلدان التي يمكنها أن تحقق فيها أرباحاً أكثر بسبب رخص اليد العاملة ونقص الضرائب والعديد من الامتيازات الأخرى الأمر الذي ينتج عنه تشوهات كثيرة أهمها فقدان فرص العمل في البلدان الأصلية وزيادة نسبة البطالة فيها.
من خلال هذه الطروحات يتساءل كثيرون عن موقعنا، وما الذي يتوجب علينا فعله في خضم هذا السلوك العاصف للعولمة؟ الإجابة على هذا السؤال صعبة وتعتمد على عوامل كثيرة لعل أهمها درجة جاهزية أنظمتنا الداخلية في مواجهة هذه الظروف والمتغيرات التي تعيد تشكيل نفسها بسرعة عالية وبطريقة لا تمكن النظم الداخلية لبلادنا من التفاعل معها من منطلق قوة. إن ما نواجهه الآن من تحديات مهولة يمس كل جوانب أنظمتنا الإقتصادية والاجتماعية والسياسية. وفي إعتقادي أن طوق النجاة بالنسبة لنا يكمن في دعم قدرات تنظيماتنا الداخلية على الصمود والتفاعل المبكر مع المتغيرات التي تفرزها العولمة الجائرة بطريقة تحفظ لبلادنا أفضل الحلول والبدائل التي تخفف من التأثيرات السلبية لهذه المتغيرات. تنظيماتنا الحالية ليست بالصورة التي نطمح إليها ... وتحتاج إلى جهود شاقة ومخلصة لمراجعة وصيانة وتحديث هذه الأنظمة. بالطبع هذا تحدي ... وتحدي كبير يقع على عاتق الدولة وليس أحد غيرها. إنه التحدي الذي لو نجحنا فيه فإننا لن نكون كالضعفاء بين السندان والمطرقة.