العربية

111

أريد يتيما لأوظفه





"أريد يتيما لأوظفه عندي" عبارة قالها لي رجل أعمال سعودي منذ أكثر من عقد ونصف من الزمان. لفترة بسيطة شعرت بالاطمئنان بأن في بلادنا من رجال الأعمال من لديهم إحساس مرهف لأبناء بلادنا ممن لا يجدون فرصة العمل. لم يمض وقت طويل حتى نغص علي فكري أحد زملائي ممن كانوا يعملون معي وقال لي إن رجل الأعمال هذا لا يرغب في توظيف اليتيم لسواد عينيه وإنما لأنه في الأغلب مقطوع من شجرة وليس له من يحميه ضد تعسف رجل الأعمال إن أراد القسوة عليه. تذكرت هذا الموقف اليوم لأن ما يحدث حولنا من تعنت في توظيف السعوديين لا يختلف عن البارحة. أهداف رجال الأعمال واحدة (إلا من رحمهم ربي) لكن اختلفت الأساليب. "الربح" وبأي شكل من الأشكال هو الهدف ولا مكان للعواطف في العمل في ظروف تنافسية طاحنة لا يجد فيها رجل الأعمال وقتا للتفكير إلا في كيفية ضبط إنتاجية موظفيه وخفض التكاليف. وما زال رجل الأعمال يتهرب بشكل أو بآخر من توظيف السعوديين. حل المشكلة لا يكمن، في نظري، في مزيد من الضغوط على رجل الأعمال. لقد جربنا جميع أنواع الضغوط ولم نفلح. أعتقد أننا يجب أن نسعى لحلول ابتكارية تصب في معالجة المشكلة الحقيقية لتوظيف السعوديين. وللوصول إلى الحلول الابتكارية يتوجب علينا معرفة بيئة الأعمال وخصائصها والتحولات التي تحدث فيها... حيث لا يجوز لنا أن نقدم اليوم حلولا لمشاكل الأمس بل يجب علينا أن نستبق الأحداث لا سيما ونحن قد دخلنا معترك النظام الدولي الجديد وأصبحنا نسبح في مياه جديدة علينا لا نعرف خصائصها. أحد التحديات القديمة المتجددة هو عدم مكوث الفرد السعودي في وظيفته لأسباب متعددة. حيث إن نسبة كبيرة من السعوديين قد وجدوا أعمالا، لكن لسبب أو لآخر خرجوا منها أو اضطروا للخروج منها لأنها لا ترقى لطموحاتهم ورغباتهم... وهنا بيت القصيد. حيث إن معظم الوظائف المطروحة حاليا لم نهيئ أبناءنا من الخريجين لها وهي وظائف يدفع الفرد ثمنا باهظا لبقائه فيها وهذا الثمن يتمثل في سلب حريته وقيمه وحتى خروجه عن طبيعته كبشر في كثير من الأحيان. وقد حدث هذا في الغرب قبلنا وكتب عنه الكثير من المفكرين الغربيين ولم نستفد من دروسهم حتى وصل إلينا هذا الوباء وبدأنا نلمس هذه التحولات حتى هنا في بلادنا. من هذه حالات الانعزال الاجتماعي وعدم الاستقرار الوظيفي بين العاملين والتي يصحبها الإجهاد الفكري والقلق النفسي والتي يرجع سببها إلى التحولات المتسارعة بسبب التطور الهائل للأنظمة التكنولوجية في مجال الأعمال حيث ابتلعت هذه التكنولوجيا الحديثة والثورة المعلوماتية قطاعات ونشاطات عديدة وأحدثت بدلا منها فرص عمل مؤقتة رخيصة في مجالات تتسم بانسداد الآفاق. جوهر القضية هو أن الظروف التنافسية الشديدة دفعت المؤسسات والشركات إلى إعادة تصميم هياكلها وتنظيماتها بطريقة تمحورت حول ضمان إنجاز الأعمال بأساليب وسلوكيات محددة لا تتفق في معظمها مع تركيبة وتكوين الإنسان البشري. وبالتالي اقتلعت الإنسان من جذوره وشوهت تطلعاته وأحلامه التي كان ينشدها من وراء الوظيفة التي يشغلها. فأغلب أعمال اليوم تتطلب من الموظف السرعة والدقة في الإنجاز في ظل ظروف تنافسية قاسية بالرغم من المعوقات التي تحوم حوله والتي تشمل الضوضاء المستمرة ورنين الهاتف والاجتماعات المطولة واستدعاء البعض للعمل في الإجازات أو في أوقات الراحة الطبيعية للإنسان. وفوق ذلك كله فهو مسؤول عن إنجازه للأهداف التي أوكلت إليه والتي تم ربطها بأجره وحتى ببقائه في وظيفته. وعليه، وكنتيجة حتمية لهذه الظروف، أصبح الموظف في حالة توتر وقلق نفسي وأصبح عليه أن يختار بين المحافظة على قيمه وواجباته الطبيعية تجاه نفسه وأسرته أو الانزلاق إلى متطلبات وظيفته بصرف النظر عن توافقها مع قيمه ومبادئه. ولم لا يفعل ذلك وقد مسخته الظروف ومسخت كل ما حوله ليخرج إلى زمن صعب لا قيمة فيه لولاء الإنسان لمنظمته وليتوقع الانتقال من شركة إلى أخرى إذا أراد أن تكون له وظيفة يعتاش من ورائها. وليعي أن ليس هناك صداقات دائمة بين العاملين وإنما هي مصالح تحكم علاقات الأفراد داخل العمل. وليعلم أنه لا يستطيع تحقيق أهدافه الشخصية بعيدة المدى لأنه يعيش في مجتمع أعمال لا يفكر إلا في لحظاته الآنية التي يعيشها حيث تقرر فيه قيم الأشياء بما تمليه مصالح الأعمال وليس العاملين. مشكلتنا، في نظري، أننا لا نستفيد من دروس الغير. فما حدث في الغرب بدأ يحدث عندنا نتيجة "عولمة" الاقتصادات والتي يدخل في إطارها المزيد من التكامل الاقتصادي للسلع والخدمات والأسواق بما تحتويه من خصخصة لبعض القطاعات الحكومية وعمليات دمج بين مؤسسات القطاع الخاص ستؤدي في الغالب إلى غربلة كبيرة في سوق العمالة السعودية وسيكون لها تأثير بالغ على المفاهيم التي درجنا على فهمها واستيعابها بالنسبة لـ"العمل" و"الوظيفة" وعلاقتها بدور الإنسان في هذه الحياة.