
معروف عن الشعب الأمريكي ولعه بالتغيير والمغامرة وتجربة كل شيء جديد. وقد لاحظت عند دراستي في أمريكا وبالتحديد في عام 1977 أن تغيرا كبيرا في مفهوم مؤسسة الزواج قد تنامى في شكل تحولات جذرية في الأسرة الأمريكية بفعل تصاعد تأثير الحركة النسائية على جوانب الحياة المختلفة. في ذلك العام رأيت بعيني حالة استثنائية تمثل رجلا يطرد زوجته من المنزل لأنها لم تجد عملا تجني منه ما يسدد قيمة فواتير معيشة الرجل وزوجته. حجة ذاك الزوج أن ما يجنيه من عمله لا يكفي إعاشة شخصين، وعلى زوجته أن تتدبر عملا يساعدها للعيش معا تحت سقف واحد. ما يحدث اليوم في أمريكا وبعد 30 عاما من تغيرات ما هو إلا نتيجة تراكم الأفعال وردود الأفعال بين الناشطين من الرجال والنساء في مجال حقوق المرأة، ويمكن القول بأن الجدل ما زال مستعرا وبشكل أكبر مما كان وقد دخل هذا الجدل أنفاقا ومسارات جديدة. من الأمثلة على هذا الجدل مقالة في موقع womensenews.org لكاتبة تدعى كيمبرلي جاديت تهاجم فيها القوانين المعادية للإجهاض وتحتج عليها قائلة "إن الرجل لا يستطيع أن يجبر المرأة على الأمومة..." داعية الرجال إلى عدم الجلوس خاملين على المقاعد المريحة والنهوض للقيام بالأعمال المنزلية مثل غسل الأرضيات وتنظيف مقعد دورة المياه وتربية الأطفال - فهذا يقيهم الترهل والخمول. ليس هذا فقط، بل هي تطالب الرجال الذين يقللون من شأن النساء والذين يشتكون من واجباتهم كآباء بأن يستيقظوا وأن يشموا رائحة حفاظات الأطفال. الجدير ذكره أن هذه المقالة جاءت في معرض هجوم كيمبرلي جاديت على هارفي مانسفيلد أحد أساتذة جامعة هارفارد الذي ألف مؤخرا كتابا عن مفهوم "الرجولة"، وهو كتاب في نظرها "يحرك العواطف الذكورية المشحونة لتأكيد سطوة الرجل على الجنس الأضعف".أستاذ جامعة هارفارد هذا شخصية مثيرة للجدل ويبدو أن كتابه Manliness قد صعد الشعور العدائي لكثير من النساء ضد الرجال في أمريكا. رغم ذلك، فإن كتاباته ترصد هذا التغير الهائل الذي حدث عبر السنوات الماضية بسبب الحركات النسائية. وفي هذا الإطار يرى أحد المحللين أن خلاصة رأي مانسفيلد تكمن في أن الهجوم المستمر للحركات النسائية قد صعب من عملية نقل مفهوم "الرجولة" للأجيال الأمريكية الجديدة وحول "الرجولة" إلى مفهوم يخجل الفرد منه ويحاول إخفاءه والتقليل منه مما أدى إلى إضعاف فضيلة الرجولة في المجتمع الأمريكي. ويرى مانسفيلد أن هذا الوضع قد أفرز رجلا أمريكيا غير راغب في تحمل مسؤوليات الرجولة الباهظة في الوقت الذي تحملت فيه المرأة الأمريكية أعباء ضخمة مستمرة لإثبات مساواتها بالرجل. ويرى أن المرأة وقعت فريسة للرجل الذي وجدها فرصة للتخلص من أعباء الزواج ومسؤولياته في حين زادت أعباء المرأة العاملة بدرجات غير مسبوقة وغير محتملة في كثير من الأحيان. كل ذلك ساعد على انتشار حوادث هروب الأزواج من أسرهم ورفضهم تحمل المسؤولية وزادت أعباء الأسر التي تتحمل فيها الأم أعباء المعيشة بمفردها وساءت نظرة المجتمع الأمريكي للأم غير العاملة. إن جدلية مساواة المرأة بالرجل في أمريكا جديرة بالدراسة والبحث عندنا لأخذ العبر منها لأن ما نقرؤه اليوم في صحافتنا وفي الوسائل الإعلامية السعودية وغير السعودية حول هذه الجدلية لا يبعد كثيرا عن الجدال في أمريكا لدرجة أنه يخيل لي أنه طريق يجب أن نسيره حتى النهاية. في نظري أن أغلبية النساء السعوديات يدركن أبعاد هذه القضية الجدلية... لكن الخشية من ردة فعل فئة غير قليلة من النساء ممن يعانين الظلم والجور في أبسط الحقوق التي كفلها الشرع لها. مجتمعنا السعودي يمر حاليا بتحد كبير يجب أن يدار بحكمة ورؤية ثاقبة. الحكمة تقول بأننا لا نستطيع إيقاف عجلة التاريخ والرؤية تقول إننا نحتاج إلى تصورات عصرية جديدة تضمن للمجتمع تماسك دينه وقيمه ومبادئه دون سلوك نفس الطريق الذي سلكته المجتمعات الأخرى.