العربية

111

لكن الرزية فقد حُرٍّ يموت بموته خلق كثير






الأجهزة الحكومية في بلادنا كثيرة وتختلف وتتشعب في اختصاصاتها... لكن يفترض أن تتكامل اختصاصات جميع هذه الأجهزة لتخدم أهداف الدولة والمجتمع. لكن للأسف هناك متغيرات كثيرة (من أهمها البيئة الداخلية والخارجية لهذه الأجهزة) تسهم سلبا في وأد محاولات الأجهزة الحكومية للوصول إلى مبتغاها. فكل جهة حكومية لكي تعمل بكفاءة وفعالية تحتاج إلى تنسيق هائل مع بقية الأجهزة الأخرى وتحتاج إلى بيئة نظم داخلية مناسبة وكفاءات بشرية متمكنة وتجهيزات عصرية مواكبة وأموال لإدارة شؤونها، ناهيك عن توفر القيادات الماهرة في مختلف المستويات التنظيمية والتي تتمتع بالرؤية البعيدة والقادرة على تحويل مدخلاتها إلى مخرجات إبداعية... وكل ذلك لا يمكن أن يتوفر في الظروف العادية فما بالك بالظروف الاستثنائية. رغم ذلك حبا الله هذه البلاد الكثير من الفرص والنعم مما مكنها من تحقيق الكثير من المكتسبات لهذا الوطن، وما تزال هناك صعوبات وتحديات جمة تقف أمام كل جهاز حكومي تختلف باختلاف طبيعة عمل الجهاز. جهاز "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، في قيامه بواجباته، مثل سائر الأجهزة الحكومية يواجه العديد من التحديات والصعوبات، لكنه يختلف عن بقية الأجهزة الحكومية الأخرى. فبالإضافة إلى تحديات البيئة الداخلية والخارجية له نجد أن طبيعة عمله تتعلق بمدى نجاح الأجهزة الحكومية الأخرى في تنفيذ واجباتها بفعالية وبالتالي فهو مضطر للتعامل مع مخرجات الأجهزة الحكومية الأخرى الإيجابية منها والسلبية. فإذا أحسنت الأجهزة الحكومية الأخرى أداءها حسبما هو مقرر لها فإن دور جهاز الهيئة يصبح بسيطا نوعا ما، وكلما قصرت الأجهزة الحكومية الأخرى في أداء واجباتها وتنفيذ خططها كلما أكتنف أعمال الهيئة الظلم لإنجازاتها، ناهيك عن سوء فهم وإدراك بعض المواطنين الذين يرون أن بعض الخلل المشاهد في جهاز الهيئة يستوجب تصفيتها وإغلاقها أو تحويل مهامها لجهاز حكومي آخر.... إلى آخر هذه الأحكام التي لو نفذت فإنها ستقضي على ما تبقى لهذه الأمة من هوية في زمن بائس تكالبت فيه قوى الفساد والإفساد مع وسائل الإعلام والنشر العالمية ووجهت قواها للإجهاز على ما تبقى من موازين أخلاق البشر وأكلت أخضر ويابس القيم والأخلاق. سوء الفهم والإدراك من قبل المواطن يبدو جليا عندما نسمع هذه الانتقادات أو عند قراءة ما يكتب عن الهيئة. ومثال حي على سوء الفهم والإدراك نجده عند قراءة التعليقات التي جاءت في موقع صحيفة الوطن لتصريح الرئيس العام للهيئة الذي أكد فيه مؤخرا "أن فروع الهيئة المنتشرة في مختلف المناطق السعودية باشرت خلال العام الماضي 438 ألف قضية متنوعة لم يرصد خلالها سوى 3 وفيات فقط, كان القضاء والقدر سببا فيها" (الوطن: بتاريخ الأحد 29 رجب 1428هـ الموافق 12 أغسطس 2007م). اختلف الناس في تعليقاتهم (في موقع الصحيفة) على هذا الخبر، وجاءت بعضها مدافعة بصورة عفوية وبتلقائية وبعضها جاء استفزازياً تهكميا بينما جاءت أخرى بشكل متشنج وشامت، وكأن ساحة الأجهزة الحكومية كلها قد خلت من الأخطاء ولم يبق إلا جهاز الهيئة لتنهال عليه الضربات واللكمات.المملكة العربية السعودية هي جزء من عالم تحول إلى قرية كونية بفعل ثورة الاتصال والعولمة التي شكلت ضغوطا هائلة لم تستطيع معظم الأجهزة الحكومية التعامل بإيجابية كاملة مع هذا التغيير وسبب قصورا في أداء مهامها وتسبب في تراكمات هائلة توجب على الهيئة التعامل معها. سبب القصور في نظري يرجع إلى أن معظم الأجهزة الحكومية ما زال التنسيق بينها قاصرا وما زالت تعمل إلى حد كبير في كيانات وجزر متفرقة مما يجعلها غير قادرة على مجابهة التغيير الهائل الذي سببته العولمة. نحن نعيش في إطار منظومة متكاملة من الأنظمة الفرعية المترابطة التي يفترض أن تعمل كلها في تناسق وتناغم. وجهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في واقع الأمر يمثل أحد هذه الأنظمة الفرعية التي يقع في دائرة اختصاصها التصدي للإفرازات السلبية للبيئة التي تعمل فيها. وهنا بيت القصيد. حيث يبدو أن كثيرا من التحديات التي تواجهها هيئة الأمر بالمعروف إنما يتمثل في التعامل مع الإفرازات السلبية لكثير من الأجهزة الحكومية التي لم تستطع القيام بالجزئيات المتعلقة بدورها في حماية والحفاظ على قيم وأخلاقيات هذا المجتمع كما يجب بسبب تعاظم قوى التغيير السلبي للأخلاق والقيم سواء القادمة من الخارج عبر العمالة الخارجية أو عبر الإعلام الخارجي. النتيجة الماثلة أمامنا هي تمازج هذه القوى مع الأوضاع الداخلية ووجدت استعداداً للإندماج فيما بينها مما سبب توالد ثقافات وقيم جديدة نراها اليوم في جوانب عديدة من حياتنا مثل السلبيات البيروقراطية التي أوقفت عجلة تقدم هذه البلاد وأسهمت في تدني إنتاجية ومعنويات الموظفين فيها إلى حدود مخزية مؤدية في ذلك إلى نزيف مستمر لوقت وجهد المراجعين لها. هؤلاء المراجعون ضاقت بهم الحياة ولم يحصلوا على مبتغاهم بطرق سليمة ومشروعة ووجدوا الأرض رحبة للسلوكيات العوجاء لتحقيق حاجاتهم. مثل هذه السلوكيات العوجاء لا شك أنها تتوالد وتتفاقم لتفرز أوضاعا وواقعا جديدا يدخله في اختصاصات وأعمال الهيئة التي لا يمكن السكوت عنها.الأمثلة كثيرة على ذلك ومنها التعليم في بلادنا الذي يعتبر مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن عدم قيامه بواجباته لتخريج الكفاءات التي تتفق مع هذا الزمن ومعطياته. آليات وأنظمة جهازي الخدمة المدنية والعمل لم تستطع حل مشكلة البطالة بشكل جذري في وقت كثر فيه الفساد والإفساد في الأرض. خريج اليوم أبعد ما يكون عن حاجات هذا الزمان وسلوكياته تجاه نفسه وتجاه الآخرين تشكو من خلل كبير. خريج اليوم عندما لا يجد عملا فإن الفراغ يقتله ويدفعه لسلوكيات وأفعال لم تكن في الحسبان.... مثل هذا السلوك بلا شك سيجعله عرضة لاختصاصات هيئة الأمر بالمعروف. نحن كلنا مسؤولون عن تفاقم هذه الأوضاع كأجهزة حكومية وكقطاع خاص وكمجتمع. وما لم يتم تصحيح الرؤية وإصلاح الخلل في هذه المنظومة فستصبح مجتمعاتنا وأخلاقياتنا نسخة أخرى لبقية الشعوب التي لم تستطع فرض نفسها في المنظومة العالمية واستشرت فيها نظم أقل ما يقال عنها إنها لا تتفق مع الطبيعة السوية للبشر وسبب وجودهم ورسالتهم في هذا الكون. وجهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو طوق نجاة هذه الأمة في هذا البحر العاصف... وهو أحد خطوط الدفاع الأخيرة لهذه الأمة... وهو جهاز يخطىء أحيانا لأنه جهاز يعمل ويجاهد في هذا الزمن العصي، والحل ليس في أن نشارك في تقويضه بل الحل في دعمه ومؤازرته لكي يقوم بدوره المطلوب. والرزية هي فقد حُرٍّ يموت بموته خلق كثير.