العربية

111

إعادة تأهيل موظفي الحكومة





موظفو الحكومة في بلادنا بيدهم سلطات وصلاحيات كبيرة لا يستهان بها وأحيانا بيدهم قلب وتحويل موازين أمور كثيرة. وبالرغم من قيام أجهزة الدولة التنظيمية والرقابية بتحديث أنظمتها ولوائحها بهدف منع تكتل الصلاحيات في أيدي فئة قليلة إلا أن اتجاهات ومزاجية الموظفين في كثير من الأحيان تفعل الأعاجيب لصالح أو ضد أحد المراجعين أو المتعاملين مع الجهة الحكومية، وكل هذا يحدث تحت مظلة النظام واللوائح. مثل هذه الممارسات لا شك أنها تضر بمصالح البلاد والعباد وتفتح الأبواب للفساد والإفساد وهروب المستثمر المحلي والأجنبي وتفوت علينا فرص توفير الوظائف للعاطلين من أبنائنا في وقت تتسابق فيه الدول على جذب الاستثمارات إليها من خلال تشذيب الأنظمة الحكومية والأنظمة القضائية والمالية والنقدية بهدف جعل الإدارة الحكومية أكثر استجابة لحاجات المرحلة الحالية. هذا السلوك الملاحظ على كثير من موظفي الحكومة، في نظري، لم ينبع من فراغ وإنما كان نتيجة حتمية لتسليم زمام الإدارة الحكومية لأفراد غير متخصصين في إدارة الأجهزة الحكومية. إن أي إحصائية بسيطة لتخصصات موظفي الدولة توضح لنا أن نسبة ضئيلة للغاية منهم من خريجي أقسام الإدارة العامة (الحكومية). حيث سنجد خريجي الجغرافيا والتاريخ وعلم النفس والأدب والرياضيات والعلوم والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا يحتلون مواقع إدارية كان الأجدر أن تولى لبعض المتخصصين في حقل الإدارة الحكومية. صحيح أن جانباً كبيراً من العمل الإداري التطبيقي ليس علما صرفا فقط ويدخل فيه جانب "فن الإدارة" ويستطيع الكثيرون من التخصصات الأخرى تسجيل بعض الإبداع فيه، لكن هناك جانباً مهماً في العمل في الإدارة الحكومية وهو القدرة على توظيف النظريات والمفاهيم العلمية المتقدمة ذات العلاقة بتشخيص المشاكل الإدارية والعلاقات الإنسانية في الأجهزة الحكومية. مجمل هذه المفاهيم والنظريات تجسد مفهوم وقيم الخدمة العامة والمصلحة العامة وهي أدوات الموظف الحكومي في مواجهته للمشاكل المتعلقة بالأفراد وسلوكياتهم وأخلاقياتهم وطرق التعامل مع المراجعين وكيفية أداء الخدمة العامة بطريقة حرفية. خريجو التخصصات الأخرى لم يؤهلوا لكل ذلك ولا علم لهم في الغالب بكل الأدوات وهذا يفسر تراجع الأداء المتفشي في الأجهزة الحكومية ويفسر سوء تعامل كثير من موظفي الحكومة مع المراجعين. ولهذا السبب أيضا نرى كثيرا من موظفي الإدارات والأقسام الحكومية قد ابتلوا بمديرين لا يفقهون شيئا عن إدارة السلوك الإنساني مما ينتج عنه تدهور معنويات وأداء الموظفين. إن أي انطلاقة إستراتيجية لحل جزء كبير من مشاكل الإدارة الحكومية، في نظري، يجب أن تكون في إعادة تأهيل موظفي الحكومة من خلال تكثيف الجهود لدعم وتطوير برامج الماجستير في الإدارة العامة (الحكومية) وزيادة القبول فيها لغرض إعادة تشكيل موظفي الحكومة الحاليين من حملة البكالوريوس في التخصصات المختلفة. ومما يؤسف له حاليا أنه رغم الإقبال الشديد من موظفي الحكومة للانخراط في برامج الماجستير في الإدارة العامة في الجامعات الحكومية إلا أن معظمهم لا يتم قبولهم نتيجة الأعباء التدريسية والإشرافية للأساتذة في مرحلة البكالوريوس. وفي حال توسعة الطاقة الاستيعابية وزيادة أعضاء هيئة التدريس فإن ذلك سينعكس إيجابا على الطلاب جميعهم نتيجة تلاقح الأفكار والتجارب بينهم من جهة وبين الأستاذ والطلبة من جهة أخرى نتيجة مناقشة قضايا ومشاكل حقيقية في الأجهزة الحكومية. إن إعادة تشكيل العشرات من موظفي الحكومة عبر برامج الماجستير في الإدارة العامة ستساهم بلا شك في تخريج موظف مؤهل يتحلى بأخلاقيات العمل الحكومي المبني على المصلحة العامة والسلوكيات المتقدمة وبالذات في هذه المرحلة التي تتطلب وجود أجيال جديدة من موظفي الحكومة تستطيع القفز فوق سلالم البيروقراطية لتخدم مجمل أهداف الحكومة بدلا من عرقلتها. إن المرحلة القادمة مرحلة شديدة الحساسية وهي التي سترسم ملامح مستقبل هذه البلاد لأنها ستشهد إعادة صياغة الكثير من المفاهيم بالنسبة لعمل الجهات الحكومية من حيث إعادة التنظيم واستحداث الوحدات الإدارية ذات العلاقة بالانفتاح الاقتصادي وتشجيع رأس المال الأجنبي وبالطريقة التي تلائم احتياجات هذا البلد وستتطلب التفاعل مع مشروعات القوانين التي ستعدها الجهات الحكومية والتي يفترض أن تركز على العلاقات المحلية والإقليمية والدولية. كل هذه الواجبات لا يمكن في تقديري أن تتم إلا من خلال أطر تنظيمية مصاغة من قبل متخصصين في التنظيمات الحكومية قادرين على توفير التنظيمات الملائمة البعيدة عن سلبيات السلوك البيروقراطي والتي تكفل ترسيخ مبادئ ومصالح هذا المجتمع بدلا من السلوكيات المشاهدة يوميا من حيث الالتفاف حول الأنظمة لتحقيق مكاسب لا تمت للصالح العام بأي صلة وتجهض جهود الدولة التي تسعى للرفع من مستوى الأجهزة الحكومية لخدمة مجتمعها.