
أعداد القتلى والمصابين في الحوادث المرورية لدينا ما زالت تؤرق الجميع مواطنين ومقيمين ومسؤولين. كثير منا يضع يده على قلبه قبل خروجه من المنزل خوفاً من مفاجآت الطريق. المملكة من أكثر الدول استيرادا للسيارات على الصعيد الإقليمي والعربي، وتشير بعض الإحصاءات إلى أن الطرق السعودية قد شهدت أكثر من 260 ألف حادث وأكثر من 11 مليون مخالفة مرورية خلال عام واحد فقط هو عام 1424هـ. وتشير بعض الدراسات أيضا إلى أن التكلفة السنوية للحوادث المرورية تعادل ما يصرف على القطاعات الصحية والتنمية الاجتماعية مجتمعة.وبالرغم من أن نظام المرور السعودي قد مر بمراحل عديدة بدءا من عام 1361هـ ثم تم تطويره في عام 1388هـ ثم عام 1391هـ الذي حوى نظامه على لائحة تنفيذية تجاوبت مع ظروف تلك الفترة. لكن يبدو أن حراك المجتمع السعودي وتأثره بالبيئة المتسارعة التغيير وظروف التنمية في بلادنا قد تسببت في عدم قدرة أجهزة المرور في بلادنا على ملاحقة هذه التغيرات المتسارعة وبالتالي ساهمت بشكل أو بآخر في إفراز إشكالية كبيرة تمثلت في فرادة تركيبة شخصية الفرد السعودي تجاه الأنظمة المرورية. شخصية الفرد السعودي (في إطار النظام المروري) أقل ما توصف أنها متناقضة مع نفسها. حيث يمكن القول بأن الفرد السعودي يكون في أحسن حالاته عندما لا يكون خلف مقود السيارة. المشكلة تبدأ عند جلوسه خلف هذا المقود... تتغير شخصيته ويتحول إلى إنسان قاس حاد الطباع يستهين بحقوق الآخرين بشكل لا يتناسب أبدا مع سلوكيات وأخلاقيات الفرد المسلم التي تربينا عليها. لقد نمت شخصية السائق السعودي هذه وتشكلت في ظل ظروف ثقافية واجتماعية واقتصادية استثنائية وخاصة تستدعي منا تمحيصها والنظر إليها بعمق إذا كنا نريد حلولا جذرية لمشكلة الزيادة الهائلة في أعداد الحوادث المرورية. يكفي أن تقود السيارة لمدة نصف ساعة في أحد الشوارع أو أحد الخطوط السريعة لتكتشف أنك ضحية من يحاول أن "يستأسد" عليك وحذار من أن ترمقه بنظراتك فإنه قد يوقفك ثم يوبخك على نظراتك وعلى الطريقة التي تقود بها سيارتك. البعض يسير في الخطوط السريعة متجاوزا السرعة النظامية وفي أقصى اليسار محاولا دفعك بطريقة متشنجة لتخلي الطريق له وكأنه قد منح صكا شرعيا بملكية الطريق له وحده دون بقية عباد الله.حالات التسلط والاستئساد المروري استشرت في مجتمعنا كالوباء وقد أدى السكوت عليها (لعدم حدوث أغلبها تحت أعين رجال المرور ولصعوبة إثباتها من قبل الشخص الذي مورس عليه مثل هذا الاستئساد) إلى شعور الكثير منا بالغبن والإحباط الذي يقلل من انتماء الضحية لوطنه وسبب نتائج خطيرة على نفسية وصحة الكثيرين منا. غالبا لا يتوقف السائق المستأسد عن ممارساته إلا إذا شاهد سيارة أمنية على مرمى بصره. شوارعنا وطرقنا السريعة تحولت إلى حلبات سباق لا يحكمها إلا قانون الغاب. ولا أريد أن أسرد عدد الحوادث التي ذهب ضحيتها الآلاف من أبناء وبنات هذا البلد حتى تجاوزت أعداد قتلى الطرق السريعة لدينا قتلى الحروب في بعض الدول. ويبدو أن سلوكيات السائق السعودي قد حصرت دور رجال الدوريات الأمنية والمرور في الفصل في المنازعات بين السائقين وليس في وقوع المنازعات في الأصل من خلال الضبط الفوري لمخالفي الأنظمة المرورية.إنني أشفق كثيرا على رجل الأمن والمرور في بلادنا... إنهم يحاولون القيام بدورهم كما يجب لكنهم أمام "مواطن صعب وعنيد". حاولت إدارات المرور أسلوب التوعية مع هذا المواطن وثبت فشله الذريع. حل هذه الإشكالية لا يكمن في العلاجات الوقتية والمؤقتة بل لابد من دراسة واعية شاملة لجذورها. نحن لسنا أمام قضية تتعلق بأنظمة المرور فقط... نحن أمام تحديات هامة تمس شخصية ومستقبل الفرد السعودي. دراسة هذه المشكلة ستكشف لنا أن هناك تراكمات خطيرة في الشخصية الكلية للفرد السعودي في كل ما يتعلق بتعاملاته مع غيره. وقد نكتشف في هذه الدراسة أن الحل لا يكمن في كبح جماح قائد السيارة من خلال الغرامات المالية والتوقيف والسجن. الأصل في الفرد السعودي هو دماثة الخلق التي يتحلى بها في تعاملاته العادية... فلماذا يتحول إلى النقيض عند قيادته السيارة.