العربية

111

هل صحيح أن قليلاً من الفساد ضروري؟






كشفت تقارير معهد البنك الدولي وعلى لسان السيد دانييل كوفمان مدير عام إدارة "حسن إدارة الحكم" بمعهد البنك الدولي أن حجم الرشاوى التي يتم تقاضيها في الدول النامية والمتقدمة قد تجاوز التريليون دولار سنويا. هذا الرقم الخرافي لا يمثل سوى كارثة من أعتى الكوارث التي يمكن أن تصيب أو أن تنهش واقع الإنسانية ومستقبلها. القضية الآن ليست قضية أرصدة مالية تتحرك بين جيوب قلة من البشر، بل هي قضية "فساد مؤسسي" يسعى لغرس جذوره في كل المجتمعات الإنسانية. إنه عالم جديد لا يمكن أن يسدد فواتيره أحد إلا من خلال سوق لا يباع فيها الإنسان فقط بل يباع فيها المجتمع برمته بأبخس الأثمان عندما يأكل الفساد أخضرها القوي ولا يبقي فيها إلا أصفرها الهش. عالم جديد يصفه "بيتر آيجن" مؤسس منظمة الشفافية العالمية (ومؤلف كتاب "شبكات الفساد والإفساد العالمي") بأن ما يلفت النظر فيه ليس أموال الرشوة فقط بل ما نراه من مشاريع يتم إنجازها بطريقة رديئة واستثمارات شكلية غير ضرورية تقام هنا وهناك. ونحن هنا في المملكة وفي الدول العربية لا نعيش في كوكب معزول بل نحن جزء لا يستهان به من هذا العالم المضطرب ولابد أن يصيبنا بعض مما أصاب العالم ولا أعتقد أنه بإمكاننا اليوم أن ننكر وجود قدر من الفساد في مجتمعنا يمارس دورا عبثيا يهدم كل عمل قائم ويجهض كل مشروع نافع. هذا القدر يصعب تحديد حجمه وشكله لأننا لم نتصد له كما يجب أو لأننا اخترنا أساليب غير فعالة في مواجهته. قد أتفهم سلوك موظف بائس فقير يطلب رشوة لقاء إنهاء معاملة في إدارة ما. وقد أتفهم موقف رئيس هذا الموظف الذي يعلم بسلوكيات موظفه دون أن يحرك ساكنا لقناعته بأن التحرك ضد هذا الموظف أو ذاك سيحرك المياه الراكدة ويفتح الأبواب لكثير من الأمور غير السارة لإدارته ومن ضمنها منصبه الذي يحرص عليه بأسنانه. وقد أتفهم بعد هذا كله سكوت جهات الرقابة الإدارية على عدم تطبيق العقوبات في حق فاسد وعابث لعدم قدرتها على إدانته بصورة قطعية. أتفهم كل ذلك... أتفهم السلوك... لكن لا أجد لهذا السلوك ما يبرره. أتفهم هذا السلوك لأننا، على ما يبدو، أمة تفتقر إلى أبسط مفاهيم الإدارة والتنظيم في معالجتها لأمورها. إنها ثقافتنا التي أفرزت نمطا إداريا يسمى بـ "إدارة الأزمات"... لا نخطط لما سيأتي بل ننتظر الحدث حتى يطل علينا... عندها فقط نتحرك لمواجهة الأزمة بحلول سريعة لا تأخذ عمق المشاكل وأبعادها المختلفة... والنتيجة أن الحلول تأتي بنتائج عكسية في أغلب الأحيان. تجدر الإشارة إلى أن طفرة بحوث الإدارة التجريبية وتراكمها عبر العقد الماضي إضافة إلى الدروس المستفادة من تجارب العديد من الدول تشير، كما يقول "دانييل كوفمان"، إلى أن البلدان يمكن أن تحقق قفزات تنموية كبيرة للغاية وبتكاليف متواضعة من وراء "تحسين التنظيم والإدارة"، وقد أثبتت ذلك عدد من الاقتصادات الناشئة في بلدان مثل البلطيق وبتسوانا وشيلي وسلوفينيا. ويضيف كوفمان بأن من المغالطات الشائعة أن نركز على القطاع الحكومي كمصدر للفساد والواقع أكثر تعقيدا من ذلك لأن المصالح الخاصة ونفوذ القطاع الخاص قوي ويسهم بشكل كبير في تشكيل تشريعات الدولة والسياسة العامة وقرارات المؤسسات.
إن "التصدي الفعال" للفساد في بلادنا ليس من خلال إنشاء مزيد من اللجان والأجهزة الرقابية المعنية بالسلوك والأخلاق ومواثيق شرف المهنة لأن مثل هذه التحركات عادة ما يتم اللجوء إليها لأنها الأسهل ولأننا نريد أن نتهرب من القيام بإصلاحات جوهرية في التنظيم والإدارة. الإصلاحات الجوهرية في التنظيم ليس معناها أن نأتي بقوالب تنظيمية مستوردة وجاهزة مع الخبراء الأجانب بل يعني التعديلات والإصلاحات التنظيمية "المستمرة" التي تكفل "تقوية دفاعاتنا التنظيمية والإدارية" للتقليل من الفساد أولا ثم تحجيمه للحدود القصوى. لقد صرفت الدولة أموالا باهظة في تعليم أبنائها ولدينا من الخبرات الإدارية والتنظيمية في الجامعات السعودية ومعهد الإدارة العامة وألوف الممارسين للعملية الإدارية والذين تراكمت لديهم خبرة التعامل الإداري اليومي. نحن نحتاج إلى فرق عمل منتقاة بعناية هدفها الخروج بحلول مبتكرة تتلاءم مع البيئة والثقافة المحلية. نحن لسنا بحاجة إلى تطبيق نماذج وقوالب تنظيمية نجحت في بلاد غير بلادنا. نحن بحاجة إلى عربات تنظيمية مبتكرة تتلاءم مع مفردات ثقافتنا وبيئتنا ومفهومنا المحلي للفساد والرشوة... عربات تستطيع حمل أهدافنا من ورق إلى واقع معيش. فوق ذلك كله، وهذا هو الأهم، نحتاج في مختلف الأمكنة لقيادة إدارية، ليست واعية وداعمة لهذا التوجه فقط بل تحارب من أجله بكل قوة. لقد استشرى الفساد الإداري في الأرض... لكن ما تزال هناك علامات مضيئة ومؤشرات وبطاقات لدرجات الإصلاح والشفافية وبحوث ودراسات وتجارب دول يمكن الاستفادة منها. ولقد حان الوقت لرفع "جاهزية" تنظيماتنا لمواجهة ما هو قادم بدلا من انتظار وصوله. لقد حان وقت التخلي عن لي أعناق الأنظمة وإيجاد المخارج النظامية لحل مشاكلنا الإدارية. لقد حان الوقت لاقتلاع عبارة "قليل من الفساد ضروري لتسيير العملية الإدارية". لقد حان الوقت لكي يصيب التحديث تنظيماتنا لتصبح الفيصل الذي يحتكم إليه. إن المعالجات الشكلية والتجميلية لن توصلنا إلى أهدافنا بل ستكون نتائجها وقتية لا تؤدي الغرض وستكون مضيعة للوقت والجهد وستكون أسوأ تركة نتركها للجيل القادم.