العربية

111

الاستهتار المروري وبعض أسبابه





يكتب الكثيرون وما زالوا يكتبون عن مآسي حوادث السيارات التي تؤرق شوارعنا وطرقنا السريعة. أقول" شوارعنا وطرقنا السريعة" وهي جماد لا يتحرك لأنني وصلت إلى قناعة بأن الكثير منا أصبح جمادا بليد الإحساس يمر بجانب هذه الحوادث الدامية... يسترق النظر إليها... ثم يطلق لسيارته العنان وكأن الأمر لا يعنيه وأن الحوادث لا تصيب إلا غيره. الواقع يقول إن هذه الحوادث لم ترحم أحدا وأصابت أغنياءنا وفقراءنا على السواء. ومن منا لم يطحنه الألم عندا فقد عزيز في حادثة سيارة؟الحالة المرورية في بلادنا لا نستطيع أن نسميها ظاهرة لأنها تحولت وبجدارة إلى إشكالية رئيسة وإفراز خطير لتفاعل عدد من المشاكل داخل مجتمعنا. شوارعنا ومياديننا وطرقنا السريعة أصبحت الآن تثير القلق والهلع لكل من يقود سيارته ذاهبا إلى عمله أو خارجا منه أو متنزها هو وأسرته. ما يظهر لنا أن هناك طابورا خامسا من السائقين المستهترين لا يتورعون عن القيام بأي عمل طائش طالما هم خلف مقود السيارة. حتى سيارات المرور والدوريات العادية منها والسرية أصبحت لا تخيفهم. هم يراقبون بأعينهم الرادارية تواجد أي نوع من هذه السيارات الرسمية (ويعتقدون أنها مهارة جديدة اكتسبوها) ليتحايلوا عليها لوقت قصير حتى يعاودوا ممارسة استهتارهم المروري.هذه النوعية من السائقين يعانون، في نظري، من مشاكل نفسية لا نستطيع وصفها بالسطحية لأنها تضرب في أعماق التركيبة الفريدة لشخصياتهم. هذه التركيبة الفريدة لشخصياتهم لا يمكن أن تكون إلا نتاج ثقافة الأسرة والمجتمع والبيئة التي أفرزت مثل هذه الشخصية غير السوية. مثل هذه الشخصية واضح أنها لا تعترف بالمساواة مع الآخرين، لا تحترم حق غيرها في الوجود، ينظرون إلى غيرهم وكأنهم مجرد عوائق يجب التخلص منها، لا يرى مكانا لسيارته إلا أمام جميع السيارات الأخرى، يعطي لنفسه الحق في كل شيء ويسلب الآخرين نفس الحق، غير مقتنع بأنظمة المرور لأنه يرى نفسه فوق هذا النظام، عندما يذهب لصلاة الجمعة يعطى لنفسه الحق في سد الطريق وحتى الوقوف أمام مخارج وأبواب المنازل اللصيقة بالمسجد، يستغل مؤشرات الوطنية في وضع أي ملصق في الزجاج الخلفي متحايلا بذلك على أنظمة السلامة، عندما يتم إيقافه من قبل رجال المرور أو الدوريات لا يتورع من مخاطبة رجل الأمن بقوله... ألا تعرف من أنا. في السابق كنا نرى بعض أبناء الأغنياء والنافذين في المجتمع هم من يقومون بمثل هذه التصرفات (وهم بالتأكيد ليسوا بمعذورين) لكن اليوم نرى هؤلاء قد تخلصوا من هذه العادة الذميمة ليتلقفها غيرهم من العامة من أبنائنا. إن نسبة كبيرة ممن يمارس اليوم الاستهتار المروري، في نظري، أناس عاديون بسطاء مسخوا لأنهم غير قادرين على التعامل والتفاعل مع بيئتهم. بيئة اليوم حياة حديثة ذات إيقاع سريع، ظروف أسرية تتطلب رعاية وعناية بمتطلبات بيت وزوجة وطلبات غير منطقية للأبناء والبنات وزيارات لأم أو أب مريض. أضيف فوق هذه الأعباء قطاع حكومي شبه مريح شحيح التوظيف وقطاع خاص لا يرحم يعمل وكأنه في غابة يمتص عافية الموظف، لا يوظف إلا من يسهم إسهاما مباشرا في زيادة أرباحه. هذان القطاعان يعملان اليوم في حالة استنفار لمواجهة تحديات عولمة اقتصادية عاصفة تتطلب الانضباط الشديد والعمل المتواصل وفي ظل بيئة تزداد فيها العمليات الإليكترونية التي تراقب وتضبط فيها سلوكيات الموظف من حيث أداؤه وإنتاجيته ومواعيد حضوره وانصرافه دون أية مراعاة للظروف الأسرية للفرد. يحيط بذلك كله بيئة متصلبة وضعت المدير والمرؤوس في حالة احتكاك دائم وتحت ضغوط جبارة لسعودة الوظائف نتج عنها حالات كثيرة من الاضطهاد الوظيفي للموظف والمدير على حد سواء. إن مجمل هذه الظروف لا يمكن أن تفرز للإنسان العادي إلا قلقا متواصلا وعدم استقرار نفسي وخوفاً دائماً من شبح البطالة وانقطاع العائد المادي من الوظيفة. لقد تأثرت وتشوهت بيئة العمل لدينا كثيرا لعدم قدرتنا على التفاعل مع الانفتاح الاقتصادي ومعطيات العولمة الاقتصادية. الأوضاع الراهنة للوظيفة والعمل لها علاقة كبيرة بما نشاهده اليوم من استهتار مروري. النتيجة اليوم أن هذا الموظف والعاطل والباحث عن عمل لا يستطيعون التكيف مع البيئة التي تغيرت عليهم فجأة دون علمهم. لم تعلمهم المدرسة ولا الجامعة هذه التغيرات التي كانت متوقعة في السابق وأصبحت اليوم واقعا أليما بالنسبة لهم.اليوم أصبحت الطرق السريعة والميادين والشوارع أمكنتهم المناسبة لينفثوا ما في صدورهم من حنق وغضب. اليوم يرون أن العالم كله ضدهم وما سلوكهم في الشوارع والميادين والطرق السريعة إلا انعكاسا لعدم رضاهم بواقعهم الذي لا يقدرون على التكيف معه. الفرد يرى أنه في مكان مثل مدرجات الرومان عندما كانوا يطلقون الأسود لتتقاتل مع المصارعين. هو يريد أن يعيش لأن أهم غرائز الإنسان حب البقاء. وفي نظري، أن نسبة عالية جدا من الاستهتار المروري هي انعكاس لحالة الكثير من الأفراد الذين لم يستطيعوا التكيف مع التغير السريع الذي يحدث من حولنا