.jpg)
عندما تقوم الحكومات بصياغة أنظمتها وقوانينها ولوائحها وإجراءاتها بطريقة سليمة وسلسلة ومنطقية بحيث تتماشى مع احتياجات المجتمع وتطوره فإن دور الإدارة الحكومية ينحصر في تطبيق هذه الأنظمة دون تحيز. لكن الواقع يشير إلى أن ذلك ضرب من الخيال لأن صياغة الأنظمة ليست بالسهلة وأن إدارة شؤون المجتمعات معقدة ويشوبها الكثير من الإشكالات التي يصعب على المديرين في الأجهزة الحكومية استيعابها ثم البت فيها. ولهذا السبب تقوم السلطات التشريعية في أي مجتمع بترك قدر لا بأس به من حرية التصرف للمديرين يستخدمونه حسب الظروف التي يواجهونها في تعاملاتهم اليومية. حرية التصرف هذه يمكن أن نسميها بـ "السلطة التقديرية" لأن الضرورات اليومية والحالات الخاصة التي لا يشملها نظام واضح تمكن السلطة التنفيذية من استخدام مثل هذه الصلاحيات. وبالطبع فإن تشدد السلطة التشريعية في تحجيم تصرفات الإدارة وتقييد "السلطات التقديرية" يؤدي غالبا إلى شل الإدارة وحركة الإبداع فيها وهضم حقوق المتعاملين مع الأجهزة الحكومية. ولأن المديرين الحكوميين هنا ليسوا جمادا بل هم بشر تتنازعهم وتؤثر فيهم الكثير من العوامل فإنه في الوقت الذي نجد فيه أن سلطة المديرين التقديرية تسهم في حماية الأفراد وحقوقهم نجدها في وضع ضعيف هش ينتج عنه في كثير من الأحيان استغلال المواطنين لها بحجة أن لديهم حالة خاصة لا يشملها نص النظام. وحتى أوضح كلامي فإنني أقتبس شكوى أحد المواطنين الذي تخرج قبل عام تقريبا بشهادة بكالوريوس من إحدى الجامعات خارج المملكة حيث كان يصرف عليه وعلى بعثته الدراسية من خلال منحة ليست في إطار المنح التي تقع في إطار إحدى الجهات التي تشمل تعيين المبتعث بعد تخرجه. هذا المواطن متزوج ولديه أطفال وبعد أن أنهى بعثته يرغب في العمل في وطنه وهو حتى الآن من دون عمل بسبب "الروتين" الممل في أروقة الإدارة الحكومية صاحبة الحكم على تخصصه ولا يعرف كيف يعيل أسرته وهو من غير عمل. ويشتكي من المعاملة (التي يلقاها من الوزارة التي يريد أن يتعين فيها ومن ديوان الخدمة المدنية) والتي يرى فيها تفرقة واضحة بينه وبين الذين تخرجوا من الجامعات السعودية بسبب تخصصه.هذه حالة واحدة من مئات الحالات قد استخدم فيها المسؤولون سلطاتهم التقديرية لتوفير منحة دراسية خارجية لبعض الأفراد. مثل هذا القرار لا يظهر أثره صبيحة اليوم الثاني ولكنه يأخذ سنوات يكون فيها من استفاد من هذه السلطة التقديرية قد عاش دهرا في "حق مكتسب" يريد بعد تخرجه أن يعامل معاملة غيره من المبتعثين الذين مروا على جميع الإجراءات الموجودة في النظام.قضية "الحق المكتسب" ليست فقط في مجال الابتعاث للخارج ولكنها في كافة جوانب ممارسات الأجهزة الحكومية ولا شك أنها من إفرازات التوسع في استخدام "الصلاحيات التقديرية". وقد نتج عن ذلك عدم اهتمامنا بإصلاح وتطوير أنظمتنا وتنظيماتنا بشكل يقلص الحاجة إلى استخدام هذه الصلاحيات وثانيا قيام أصحاب الحاجة من أفراد المجتمع باستغلال طيبة قلوب المسؤولين ممن في يدهم مثل هذه الصلاحيات بأساليب مختلفة تتناسب مع ظروف ومعطيات مجتمعنا الذي يثمن العلاقات الشخصية وصلة القرابة وتبادل المنافع والمصالح مما يشجع على فتح أبواب عديدة للفساد الإداري.ممارسة الصلاحيات التقديرية من قبل الإدارة العليا في الأجهزة الحكومية هي بلا شك رحمة للعباد لكن التوسع في هذه الممارسة يدفع الكثير ممن استفادوا من هذا "التقدير" للمطالبة بحقوق قد تستدعي لي عنق النظام أو الالتفاف حوله. الظروف تتغير من حولنا بشكل سريع وتنظيماتنا بحاجة ماسة إلى مراجعة ولابد من إدخال تعديلات على البناء التنظيمي والأنظمة الرئيسية والفرعية التي تدعم هذا البناء. مثل هذا الجهد ليس باليسير وأمامه عوائق كبيرة. تحديث هذه الأنظمة يستدعي حدوث كثير من المراجعات التنظيمية المستمرة التي تسبب الإرباك للحركة اليومية للعمل. وفي نظري أن المسارعة في البدء في هذه المراجعات التنظيمية والتغييرات والتعديلات أقل تكلفة من الأضرار التي سيدفعها المجتمع عند اختيارنا حالة السكون .