العربية

111

العنف في أماكن العمل






المتتبع للظواهر التي تحدث في أماكن العمل يجد أن العنف قد بدأ يتسلل إلينا وبدأنا نلمس بعضا منه من خلال الحوادث التي تأخذ طريقها للصحافة. فحسب ما نقلته صحيفة الوطن (22 ربيع الأول 1427هـ) قام رجل أمن بإطلاق النار على رئيسه داخل مكتبه فأرداه قتيلا. الصحيفة أشارت إلى أن القاتل تم نقله من شرطة محافظة جدة إلى شرطة الطائف قبل عدة أشهر، وتم تكليفه بالعمل في الأمن الوقائي كمندوب أمني مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وجاء في حيثيات الخبر أن القتيل كان يعمل في وظيفة رقيب يشرف على أفراد الأمن الوقائي وإجازاتهم وتقييمهم وظيفيا. كذلك أشارت الصحيفة إلى أن الجاني لم يقم بهذا العمل للمرة الأولى بل سبق وأن اعتدى بالطعن على رجل أمن من زملائه في العمل بعد أن تم نقله من موقع لآخر معتقدا أن زميله كان السبب في نقله فما كان منه إلا أن ذهب إليه بعد صلاة الجمعة في أحد المساجد وفاجأه بطعنة كادت تودي بحياته. هذه الحادثة واحدة من كثير من الحالات التي يتوجب علينا أن نتوقف عندها ونبحث عن الدوافع التي تدفع الفرد إلى سلوك مثل هذا الطريق لتصفية حساباته. العنف في مكان العمل مشكلة عالمية. واستنادا إلى إحصائيات مكتب العدل الأمريكي يقع ما متوسطه 1.7 مليون شخص ضحية لاعتداءات في أماكن عملهم (75 % منها تعتبر بسيطة فيما 19% منها تعتبر عنيفة). ويشير تقرير حديث للمعهد الوطني لصحة وسلامة المهنيين في الولايات المتحدة أن حوالي مليون عامل يتم الاعتداء عليهم سنويا وأن ما متوسطه 20 حالة وفاة تحدث أسبوعيا نتيجة اعتداء في مكان العمل.الدراسات الحديثة في مجال الإدارة تشير إلى أن الكثير من الأفراد الذين يلجأون للعنف في مكان العمل يشعرون في داخلهم بأنهم ضحية قرارات تعسفية وارتجالية و نتيجة لسخط رؤسائهم عليهم وفي كثير من الأحيان نتيجة لعبة قذرة قام بها زميل عمل لهم. مثل هذه الدراسات في نظري قيمة جدا وتفيدنا في التعامل مع الآخرين عندما نكون في مراكز القوة والسلطة. إن كثيرا من جهود التطوير والتغيير الذي تقوم به المنظمات والإدارات ينطوي عليه تدريب أو نقل موظفين من مكان لآخر أو ترقية لموظفين دون آخرين... ويبدو أن كل ذلك يخلق أجواء من الانزعاج والقلق النفسي وعدم التكيف الأمر الذي يثير حفيظة كثير من الموظفين الذين يدركون الأمور بطرق مختلفة وتجعلهم يعتقدون أنهم أحق من غيرهم بالتدريب أو الترقية أو البقاء في نفس العمل أو النقل فيلجأ البعض منهم للعنف والاعتداء على الغير بطريقته الخاصة بينما يلجأ الأغلبية إلى سلوك سلبي يحمل في طياته التعمد في تخريب أو سرقة ممتلكات المنظمة وفي كثير من الأحيان العمل لإشاعة السلبية في أطراف التنظيم. والعنف يأخذ صورا كثيرة تبدأ بالملاسنة وقد تنتهي بالقتل. وتشير الدراسات الميدانية التي أجريت في الغرب إلى أن الأفراد الذين قاموا بالاعتداء على الغير لا يشعرون بأنهم قد ارتكبوا ذنبا بل يعيشون واقعا يقول لهم بأنهم هم الضحايا الحقيقيون. وإذا كانت هذه الدراسات تعكس بيئة العمل في دولة متقدمة مثل أمريكا فماذا نقول نحن عن بيئتنا التي تتسم بضعف الشفافية، الواسطة الاجتماعية، التقييم غير الموضوعي لكثير من الأمور.... كل ذلك ليس إلا البذور التي يمكن أن تتحول يوما إلى واقع مرير يعصف بكل مكتسبات الإدارة في بلادنا. وفي ظل غياب مثل هذه الآليات "الشفافة" فإن اللجوء للعنف في مكان العمل وارد لا محالة. ولأن معظم التغيير والتطوير لا يمكن تفاديه فإنني أعتقد أنه يمكن المضي في تطبيق وتنفيذ التغييرات شريطة أن تكون عادلة وأن تتم بطريقة هادئة دون إثارة حفيظة الآخرين مع ضرورة مواجهة المقصرين في عملهم بالحقائق بدلا من السكوت عنها. كذلك يمكن تخفيف وطأة التغييرات من خلال الشفافية والصراحة بين القيادة الإدارية وعموم الموظفين بشكل يستبعد تراكم الإدراك السلبي لهذه التغييرات في أذهان الموظفين.إن افتقارنا للشفافية في العمل الإداري في كثير من محاولات التغيير والتطوير الإداري يفسر في إحدى جوانبه سبب تفضيل الكثير من القيادات الإدارية لشغل العديد من المناصب الإدارية بأشخاص يتسمون بالمهادنة وامتصاص غضب ومشاغبات الآخرين (حتى لو كان ذلك على حساب الكفاءة). ومن الطبيعي أن يكون لمثل هذا التوجه الشعور بالإحباط الذي يولد سلبية عارمة لدى كثير من الموظفين من أصحاب الكفاءة وبالتالي قد يدفعهم إدراكهم (في ظل قصور الشفافية) إلى الشغب والتحرش بمن حولهم دون أن يجدوا من يردعهم. مثل هذا الواقع يشير إلى أننا نقوم بتخدير الأوضاع وأننا نحل مشاكلنا من خلال خلق مشاكل أخرى. وفي ظل الاستمرار في عدم ضخ مزيد من الشفافية في الكيان الإداري يصبح كل شيء ممكنا.