
يستند مجلس الشورى السعودي على المادة الخامسة عشرة من نظامه لإبداء الرأي في السياسات العامة للدولة والتي تحال إليه من رئيس مجلس الوزراء ومنها مناقشة التقارير السنوية التي تقدمها الوزارات، والأجهزة الحكومية الأخرى. وغالبا ما يدعى الوزير المختص لمناقشة التقارير السنوية الخاصة بوزارته. وأعتقد أن هذا الدور الذي يقوم به المجلس دور فاعل يضع أعضاء المجلس في الصورة بشكل جيد لما يواجه الوزير من معوقات وصعوبات أثناء تنفيذه لسياسة الدولة. رغم ذلك، أجد أننا لا ننتبه كثيرا لأسباب المعوقات والصعوبات الحقيقية التي يواجهها الوزير وبقية المسؤولين الحكوميين أثناء تأديتهم واجباتهم وأرى أن مجلس الشورى إنما يناقش مشاكل طفت على السطح )دون التوغل في مسببات هذه المشاكل( بفعل الضغوط الهائلة التي تفرزها "منظومة العمل الحكومي". ولأكون أكثر دقة، أقول إن هذه الإفرازات (أو جزءاً كبيراً منها) إنما تشكلت نتيجة تقادم الأنظمة الحكومية في بلادنا وعدم تحديثها بل ونتيجة الاكتفاء بالـ "المخارج النظامية" كوسيلة لتسيير الكثير من الأعمال اليومية دون الاهتمام بتحديث الأنظمة وصيانتها. وفي يقيني أن صياغة النظام وإصداره لا يكفي، بل يجب وضع آلية تضمن الرقابة المستمرة لهذا النظام أثناء التطبيق للتأكد من جدواه وعمله والآثار الجانبية التي أحدثها ومدى التعارض والتضارب الناشئ من تطبيقه، وهل يساهم هذا النظام في النهاية في تحقيق الأهداف العامة للدولة أم لا. هنا أتحدث عن عملية "صيانة" ... تماما كما نقوم بصيانة أي جهاز. ولعل "السيارة" التي نقودها اليوم هي أفضل مثال لتوضيح ما أقول. السيارة عبارة عن نظام متكامل من القطع والأجزاء التي تم تركيبها بشكل متكامل ومحدد لتؤمن مجموعة الوظائف المطلوبة منها. وأثناء قيادتنا لها تتعرض هذه السيارة لمشاكل الطرق وتستهلك بعض قطعها نتيجة العمل المتواصل وبعض القطع تبلى مع مرور الزمن حتى لو لم يتم استهلاكها. كل قطعة في هذه السيارة لها عمر افتراضي متى تجاوزناه أصبحت هذه القطعة مصدر خطر على السيارة ومن فيها، وبناء عليه لا بد من تغييرها أو صيانتها والمحافظة على تغيير الزيوت الموجودة فيها بانتظام. متى ما فعلنا ذلك توفرت لنا وسيلة مواصلات جيدة تعيش لفترة طويلة دون منغصات. تصور أن أحد الإطارات في سيارتك قديم جدا وأنت تسير بدون إطار احتياطي وتصور أنك لم تغير زيوت السيارة لفترة طويلة ولم تقم بتغيير الفلاتر ولديك ضوء أمامي محروق وتشتكي من عدم استجابة مكابح السيارة لظروف السير. لا شك أن هذا الوضع غير مطمئن لسيارة تتنقل فيها أنت وأسرتك من مكان لآخر.بنفس المنطق أنظمتنا التي نعايشها مثل السيارة. تمت صياغتها قبل عشرات السنين ومرت بفترة طويلة من التطبيق دون تعديلات وتغييرات جوهرية أو صيانة جذرية. هذه الأنظمة المتقادمة تعود الناس عليها وكل مسؤول حكومي أصبح ملما وخبيرا بالقيام بعمله من خلال هذه الأنظمة القديمة والالتزام بها رغم عدم قناعته بها. لكنها توفر له مساحة جيدة من التحرك حولها من خلال ما يسمى بـ "المخارج النظامية" التي وجد أنها أفضل كثيرا وأسرع من تغيير النظام. مساحة الحرية هذه أوجدت طبقتين من الموظفين، الأولى الموظفون الأذكياء المتخصصون في معرفة الثغرات والدهاليز الخلفية للنظام. والطبقة الثانية الموظفون المنضبطون الذين وجدوا أنفسهم في خانة لا يحسدون عليها غير متمكنين من تحقيقهم لأي منجزات تذكر لا لشيء سوى أنهم يتمسكون بالمقولة المشهورة "لا تغلط يحتار عدوك فيك". وجود هاتين الطبقتين دفع الموظف المنضبط للدخول في صراع مع الموظف الذكي لا لشيء سوى لأن الموظف الذكي يستطيع تسلق السلم الوظيفي بشكل أفضل منه. إنجازات الموظف الذكي، في كثير من الأحيان، ساهمت في ترقيته وصعود نجمه فوجد نفسه لا يستطيع التعامل إلا مع مرؤوسين من طينته استطاعوا بقدرة قادر تحويله إلى رهينة لرغباتهم لأنه لا يقدر على تسيير دفة الأمور إلا من خلال دهاليز النظام وليس من خلال نصوص النظام. هذا جانب واحد فقط من الجوانب السلبية التي نراها في مؤسساتنا الحكومية، فهل هذه هي بيئة العمل التي نتوقع أن ترفع بلادنا من مصاف الدول النامية إلى مصاف الدول المتقدمة. في نظري أن نظامي المالية والخدمة المدنية يحتاجان إلى إعادة نظر. هذان النظامان يتسمان بنزعة وميل شديد لتقسيم العمل واتباع خطوات تشغيلية ثابتة أفرزت أعدادا كبيرة من الوحدات الفرعية الداخلية والتي تحولت بقدرة قادر إلى جزر معزولة متناثرة مفككة لا تلتزم بالهدف الرئيسي للتنظيم. هذا الوضع سهل للموظفين في هذه الوحدات تسخير القوانين واللوائح وتفسيرها بما يكفل لهم المحافظة على مناصبهم وتعظيم مصالحهم. ليس ذلك فقط بل أصبحت الخطوات التشغيلية الثابتة لتنفيذ المهام هي أساس التعامل في المنظمة ككل بغض النظر عن تحقيقها للهدف الرئيسي للمنظمة وبالتالي ارتبطت المكافآت والترقيات بمدى تمسك الموظف بـ "ثقافة التنظيم" المستحدثة رغم معرفة الجميع بأنها لا تحقق الأهداف الرئيسة للتنظيم. مجمل هذا الوضع تسبب فيما نراه اليوم من فقدان الإدارة العليا القدرة على السيطرة والتكيف مع المتغيرات الخارجية وعدم قدرتها على إشباع الاحتياجات الإنسانية المتجددة للعاملين داخل التنظيم.مجمل مشاكلنا في الأجهزة الحكومية تنبع من تقادم هذين النظامين (النظام المالي ونظام الخدمة المدنية) وبقائهما بشكلهما الحالي دون تعديلات جوهرية سيجعلهما معرقلا للكثير من الإنجازات التي تتمناها الدولة لهذا الوطن والمواطن ، ومجلس الشورى بكل الخبرات التي تقبع تحت سقفه يمكن أن يسهم بشكل فعال في تجهيز "العربة" المناسبة التي تستطيع أن تنقلنا لمصاف الدول المتقدمة.