.jpg)
من الطبيعي أن يصادف أي جهاز إداري مجموعة من المشاكل التي تحد من كفاءته وفعاليته. في هذه الحالة يصبح تشخيص هذه المشاكل ووضع الحلول لها من واجبات الصفوف الإدارية العليا.... لكن المعضلة تكمن أحيانا في أن بعض المشاكل هي من صنع وتشكيل الإدارة العليا للمنظمة.. ويصبح حل هذه المشاكل صعبا ويتطلب حنكة وصبرا ونفسا طويلا من الدولة.
من هذه المشاكل الإدارية الملاحظة في منظماتنا الحكومية فقدان القدرة علي إستكمال تحقيق الأهداف بين أجيال القيادات المتعاقبة والتي لا يمكن حلها إلا من خلال إعداد وتكوين الصف الثاني من القيادات الإدارية وضخ الدماء الجديدة في شرايين التنظيم ليصبح أكثر قدرة على مواجهة تحديات المنافسة الشرسة التي تفرضها العولمة ومتطلبات اتفاقيات التجارة العالمية والهيمنة الخارجية. إن ما نعاني منه حاليا هو الممارسات المقصودة وغير المقصودة والتبريرات والتشكيك في كفاءة الأطقم الإدارية المتوفرة التي تتسبب في عدم تكوين الصف الثاني وبقاء الصف الأول في مواقعه لأطول لمدة ممكنة. من المهم هنا أن نذكر بأن هذه المشكلة قد أنعكست بظلالها على خطة التنمية الثامنه القادمة والتي تناقش حاليا في مجلس الشورى. حيث تركز في جانب منها على تقليل معدلات البطالة من خلال زيادة معاهد تدريب القوى البشرية لاستيعاب الجيل القادم في سوق العمل.
هذا الوضع، لاشك، يفرز العديد من السلبيات من أهمها إنتشار أجواء عدم الرضا واللامبالاة بين الموظفين الذين يطمحون في تقلد مهام أكبر تتسم بالتنوع والتحدي إضافة إلى عدم تفرغ العديد من القيادات الإدارية لأعمالها الحقيقية المتمثلة في التخطيط ورسم السياسات وإنهاك أنفسها في كم هائل لا متناهي من الأمور التفصيلية (التي كان الأولى تفويضها وتدريب الصف الثاني عليها) وتوفير جهد ووقت القيادات الإدارية لأعمالها الأصيلة. خطورة هذا الوضع تظهر غالبا في الوقت الذي تخرج فيه كفاءات الصف الأول، بسبب التقاعد أو الإعفاء، تاركة الساحة من وراءها خالية إلا من صفوف إدارية مترهلة غير مؤهلة وغير مسلحة بالخبرة والحنكة الإدارية المطلوبة... والنتيجة ضعف مستوى جودة القرارات والتي كان من الأولى أن يؤمن لهم فرصة التعلم والتأهل لقدرات ومهارات إدارية أعلى وأوسع من خلال التفويض والتمكين.
من مشاهدات هذا الوضع ما نقله لي أحد الزملاء ممن عملوا في إحدى الإدارات الحكومية بأن الجميع في هذه الدائرة لا يفعلون أي شيىء إلا من خلال خمسة قياديين يتحكمون في كل صغيرة وكبيرة في جو تنعدم فيه المبادرات ويتحول جميع من يعمل في هذه الدائرة إلى صفوف من متلقي الأوامر والكتبة والمراسلين ومساعدي المراسلين. في مثل هذه الأجواء نجد أن أغلبية الموظفين يعيشون جوا بعيدا عن عناء التفكير والتدبير لأن مدرائهم يقومون بذلك كله بالطريقة والمنظور الخاص بهم. وفي مثل هذه الأجواء يتعود الكل على عدم تحمل المسئولية والإكتفاء بالحد الأدنى من العمل بالقدر الذي يرفع عنهم عتب مدرائهم. في مثل هذه الأجواء يتمسك الموظفون بالجانب الشكلي للقوانين واللوائح والتعليمات وتكييفها حسب مزاجهم وظروفهم. وفي مثل هذه الأجواء يستغرب المرؤوس قيام مديره بتكليفه بتقديم مجرد إقتراح أو توصية لحل مشكلة ما.
في إعتقادي أننا بحاجة ماسة إلى دعم وتعزيز الدور المهم للقيادة الإدارية في تكوين القيادات المستقبلية من خلال إعادة صياغة بعض أنظمة التقاعد، والتي يبدوا أن لها دورا كبيرا في تمسك الكثيرين بالسلطة، وقد يكون من المجدي العمل على شراء تقاعد كبار الموظفين قبل سن التقاعد وتخصيص الميزانيات اللازمة لأننا نواجه تحديات صارمة غير مسبوقة. إن مشاكل اليوم لا يمكن أن تحل من خلال العقليات والسلوكيات التي تم تشكيلها قبل أربعة أو خمسة عقود. إن تقييم المدراء الحاليين وترقيتهم يجب أن يكون مبنيا على جودة قدراتهم في تفويض صلاحياتهم ودرجة تمكين مرؤوسيهم من الإمساك بزمام الأمور. يجب علينا أن نتأكد من أن المواقع الإدارية التي ستشغر يتم شغلها بأشخاص إستثنائيون وذوي كفاءة وقدرة ومهارة أكبر من أسلافهم ... هذا إذا كنا جادين في مواجهة التحديات ومتطلبات العصر.
هناك الكثير من شبابنا ممن يحلمون بمساحة من التقدير والثقة من خلال التفويض … لكن حب السلطة والتسلط تمكنت من كثير من مدراء اليوم وخطفت أحلام الشباب ومكنت الإدارة التقليدية من كل نواحي حياتنا حتى أصبحنا لا نلتقي إلا لنشكو من هذه الأنظمة التي صغناها في البداية لتيسر أمورنا فإذا بها تتحول إلى حبل غليظ يلتف حول أعناقنا.
إن أحلام الجيل الجديد من شبابنا كبيرة … لكن تشغيلهم في أجواء الأنظمة والإجراءات العقيمة والطرق التقليدية كفيل بأن يحول كل أحلامهم التي سراب … ولعل هذه الأجواء تفسر أسباب ضمور الكفاءات الشابة في القطاع الحكومي. إن إنخراطهم في العمل التقليدي الذي لا يستطيعون تغييره أو تحريكه لايصيبهم بالإحباط فقط وإنما يحولهم إلى كتل بشرية تكتفي بالطيران داخل السرب ضمانا لمورد رزقهم.