العربية

111

التحدي الجديد لمواردنا البشرية

يعتقد كثير منا أن جهات العمل لا يحق لها الاستفسار عن الجوانب الشخصية والمعيشية للموظف الذي يعمل لديهم. منظمات اليوم، شئنا أم أبينا، أصبحت تتنبه لأدق التفاصيل في شخصية وقيم وتوجهات كل من يعمل فيها وكل من يريد أن يعمل فيها، وهي لا تكتفي بذلك قبل التوظيف بل يمتد ذلك أيضا حتى بعد التوظيف وخاصة عند الترقية من وظيفة لأخرى. بمعنى آخر إن الموظف يبقى تحت المجهر ترصد حركاته وأساليبه في العمل وطرق تعامله مع الغير بما في ذلك التوغل في أدق تفاصيل حياته. لماذا كل ذلك؟ لأن منظومة الأعمال التي يمارسها البشر حول العالم قد تغيرت بشكل كبير وجذري. 

هذا الوضع الذي شرحته قد لا يكون واقع الحال في بلادنا لأننا ما زلنا نعاني من  نقص حاد في الموارد البشرية الماهرة في أغلب التخصصات ولا يتم التشديد في جوانب اختيار الموظفين إلا في قليل من الأماكن.
نظام العمل الذي يسود العالم الآن يختلف تماماً عما كان عليه في السابق بفعل العديد من المتغيرات، وإن التغيير المبني على أسس علمية بدأ يخترق منظوماتنا الخاصة والحكومية لا سيما وأن الشركات والمؤسسات والجهات الحكومية بدأت تدرك تماما التكلفة الباهظة لخطأ تعيين شخص واحد غير مناسب في وظيفة. منظمات اليوم بدأت تعي أن الاختيار السليم للموارد البشرية هو الذي يقود إلى النجاح لأن الأداء البشري هو الذي يفعل قدراتها لتحقيق أهدافها.
لم تعد الشهادات والدورات التدريبية هي العامل الحاسم في اختيار الموظف، فقد أضيف لها كثير من طرق الاختيار غير المرئية والتي قد لا يدركها المتقدم للوظيفة إلا متأخرا. في مقالة للدكتور صالح بن سبعان بعنوان "حين يتحدث واطئ الجمرة" (عكاظ: 06 سبتمبر 2010) اشتكى أحد الباحثين عن عمل قائلا" كل ما قدمت على عمل حكومي أو خاص واجتزت اختبارات القبول يتم استبعادي بعد المقابلة، مع العلم أنه تم قبول أشخاص تقديرهم أقل من تقديري، ولا أعلم ما السبب، ووجدت أن ما يملكه الآخرون ولا أملكه أنا هو الواسطة والمعرفة في البنك أو في الوزارة أو في الشركة." شكوى مؤلمة وفي الصميم وقد تدفع بطالب العمل إلى الحقد والنقمة على كل ما حوله.. لكن أقول قد لا تكون الواسطة هي كل شيء. لماذا؟ لأن من يقوم بالمقابلة الشخصية لديه العديد من الأدوات التي يستطيع بها كشف جوانب كثيرة من شخصية المتقدم للوظيفة، ويا حبذا لو قرأ كل متقدم للوظيفة كتابا أو كتيبا صغيرا عن أسرار المقابلات الشخصية قبل الدخول للمقابلة.
وما زلت أذكر موقفا حدث لي في العاصمة الأميركية واشنطن عندما كنت أعمل على درجة الدكتوراه. عدت يوما إلى شقتي ووجدت على الباب بطاقة غريبة على شكل مطوية صغيرة عليها شعار حكومي أميركي لمؤسسة عسكرية أميركية. وعندما فتحتها وجدت فيها ما ترجمته للعربية التالي: "هام .... لقد حاولت الاتصال بكم ولم أجدكم. من المهم أن أتحدث معكم حول الخلفيات الأمنية لأحد الأشخاص الذين نقوم بالاستفسار عنهم في أمر يدعم دفاعنا القومي. الرجاء الاتصال بي بين الثامنة صباحا والرابعة عصرا في أيام العمل الرسمية على الهاتف أدناه مع ذكر الرقم الخماسي للقضية التي أبحث فيها والمدون أدناه. وفي حالة عدم وجودي أرجو ترك رسالة حول كيفية الوصول إليكم. وشكرا..." وفي الجهة المقابلة للبطاقة وردت عبارة مطبوعة أخرى تشير إلى أن "الضابط المكتوب اسمه أدناه مطالب عند حضوره إليك بإبراز هويته وأوراقه كإثبات لشخصيته".
كانت لهذه الكلمات وطريقة صياغتها وقعا مربكا ومخيفا لم أعهده فباشرت فورا بالاتصال بالشخص الذي ورد اسمه في البطاقة الذي سارع بالرد على الهاتف وما أن عرفني قال لي بأنه سيأتي فورا إلى شقتي. وفي أقل من ساعة كان قد وصل فدعوته للدخول فجلس وبدأ الحديث طالبا ما أعرفه من معلومات حول "سلوكيات إمرة" تسكن في الشقة المجاورة لشقتي.
قلت له: تقصد السيدة التي تلبس الزي العسكري؟
قال: نعم
قلت له: لا أعرف عنها شيئا سوى أني أراها معي في المصعد!
قال: هل دار بينكم أي حديث؟
قلت له: فقط التحية العادية وأخبار الطقس بين أي ساكن وجاره
قال: هل لاحظت أي سلوك غريب في تصرفاتها؟
قلت له: كلا
قال: ألم تلاحظ أنها مثلا تقيم حفلات صاخبة أو دخول أناس غرباء إلى شقتها؟
قلت له: كلا في الواقع تبدو هادئة جدا وجافة بعض الشيء ولا أراها إلا قليلا عند خروجي للجامعة أو عند عودتي منها... ولكن لماذا تسأل؟
قال: هذه السيدة مرشحة لترقية ونحن نقوم فقط بالتأكد من بعض الأمور وهذه إجراءات روتينية عندنا.
في العديد من الأجهزة الحكومية الأميركية تتطلب الإجراءات ليس فقط التأكد من الشهادات والدورات التدريبية التي يحملها الفرد بل تشمل في كثير من الأحيان التدخل في حياة الموظف الشخصية ونمط حياته وسلوكياته في المجتمع وتصل أحيانا إلى القيام ببعض الفحوص بأجهزة كشف الكذب على الموظفين وطرح الأسئلة الشخصية المحرجة وهي إجراءات روتينية يتقبلها الموظف هناك بطواعية لأنها جزء بسيط من نظام يحترمه الجميع.
إن التفوق الذي يحرزه الغرب في جوانب عديدة لم يأت صدفة وإنما جاء نتيجة للعمل الدؤوب والشاق في بناء نظم الموارد البشرية والإجراءات المقننة التي تخدم مؤسساته الإدارية وتسهم كثيرا في استباق حدوث الأخطاء الحرجة وفي أسوأ الظروف إخمادها فور ظهورها.
في بلادنا اليوم كثير من الممارسات الخاطئة في الاختيار والتعيين، لكن أقول، وكمتابع في هذا الشأن، إن ظروفنا تتغير دوما للأفضل وبدأنا نشاهد الكثير منا ينبذ الواسطة وسيأتي اليوم قريبا بإذن الله الذي نختار فيه الأفضل ونسلم أمانة الوظائف لمن يقدرون قيمة الأمانة.