العربية

111

هل نحن مقبلون على قرارات قاسية؟


شهدت الصحافة المحلية مؤخرا نقاشا مكثفا حول استهلاك الطاقة في بلادنا. الجميل في مثل هذه النقاشات أنها لا تكشف فقط ثراء صحافتنا المحلية بل تبرز بوضوح الجوانب العديدة لقضية استهلاك الطاقة بشكل يعطي القارئ صورة أكثر وضوحا لحجم المشكلة ويزيد من وعيه ويوفر لمتخذي القرار في المملكة أرضية واقعية لقراراتهم المحتملة.
النقاش حول استهلاك الطاقة أبرز على السطح فريقين على الأقل: الأول ينادي بقرارات قاسية لتدارك الأمور والتحرك السريع لإلغاء الدعم على أسعار بنزين السيارات، بينما ينادي الفريق الآخر بأهمية النظر إلى المشكلة من جميع جوانبها وعدم تكريس وجهة النظر الاقتصادية على قياسات مثالية لا تأخذ في الاعتبار الجوانب الاجتماعية والسياسية مؤكدين أن هذا الدعم يوفر العديد من المزايا على كل الأصعدة.
والحقيقة أن مثل هذه الأوضاع عادة ما تضع متخذي القرار في حيرة كبيرة حيث تميل القرارات نحو الجانب الاقتصادي في الدول المتقدمة بينما تميل الكفة في الدول النامية نحو الجوانب الاجتماعية. الفريق الأول دافع باستماتة وركز على أن الأسعار الحالية للوقود في داخل المملكة تشكل تهديدا لمستوى الصادرات النفطية وبالتالي فإن تدني أسعار البنزين يؤثر على اقتصادنا من حيث انخفاض عائدات الخزينة العامة من النفط الخام المصدر للأسواق الخارجية. ولكي يدعم هذا الفريق وجهة نظره ربط بين أسعار البنزين المنخفضة حاليا في المملكة مع ما نعانيه من زيادة الازدحامات والاختناقات المرورية والحوادث والوفيات والتلوث مع التأكيد بأن استمرار الدولة في دعم البنزين (رغم كل مزايا هذا التوجه) سينتج عنه آثار سلبية بعيدة المدى ويقولون إن أبحاثا في هذا المجال لدول أخرى تشير إلى أن "كل زيادة في أسعار البنزين بقدر 10 % تقلل من عدد الوفيات في الطرق بنسبة 3.2 %. وكل 20 % تقلل 6.5 %. وإن نسبة الوفيات بسبب قيادة المراهقين تصل إلى 6 % بسبب رخص أسعار البنزين، الأمر الذي يشجع المراهقين على التهور في قيادة السيارات. البعض من هذا الفريق ذهب إلى نقطة أبعد لتوضيح الأبعاد الحقيقية لزيادة استهلاك البنزين مؤكدا أن "هناك عجزا كبيرا بين إنتاج مصافي التكرير النفطية في السعودية ومستوى الاستهلاك المحلي، حيث يتم سد هذا العجز عن طريق الاستيراد". وأن "تكلفة إنتاج الوقود أو استيراده لتغطية حجم الاستهلاك المتنامي هي أيضا تكلفة إضافية على الاقتصاد الوطني يمكن الاستغناء عنها بتقنين الاستهلاك". وفوق هذا وذاك يشير هذا الفريق إلى "تنامي ظاهرة تهريب المشتقات النفطية إلى الدول المجاورة، وهو الأمر الذي أدى في فترات سابقة إلى حصول أزمات توقفت على أثرها مشاريع حيوية كمشاريع سفلتة الطرق".
بعد أن استعرضنا حجج الفريق الأول يأتي أصحاب الفريق الثاني الذين لا ينظرون إلى هذه الإشكالية من زاوية اقتصادية بل من زاوية اجتماعية تنموية حيث يرون أن مساحات المملكة الشاسعة بين المدن وحتى داخل المدينة الواحدة وعدم وجود أنظمة نقل عام متطورة مريحة ورخيصة جعلت استخدام السيارة أمرا لا مفر منه، وأن أي محاولة لإلغاء الدعم سيؤثر في الاقتصاد سلبيا وسترتفع تكلفة النقل في المملكة بشكل حاد الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف العديد من البضائع. هؤلاء يرون أن انخفاض تكلفة المشتقات النفطية يؤثر بالإيجاب في الاقتصاد السعودي وتوفر للاقتصاد السعودي ميزة تنافسية تسهم في خفض تكاليف الإنتاج بالنسبة للمصانع وبالتالي يشجع على جلب الاستثمارات الأجنبية ويعطي الصناعات المحلية ميزة إضافية تساعدها على المنافسة ويسمح بتوفير وظائف جديدة. ويرون أن أسعار البنزين المنخفضة تؤدي إلى ارتفاع الدخول والادخار وهي وراء النشاط الاقتصادي الكبير الذي تشهده السعودية الذي بدورة يتسبب في ارتفاع معدل الاستهلاك.
ما سبق هو استعراض مبسط وسريع لوجهتي نظر الفريقين. كل وجهة نظر لها وجاهتها. والسؤال الحقيقي الذي يقبع خلف الكواليس... ما هو توجه متخذي القرار في بلادنا؟ وهل نحن مقبلون على قرارات قاسية؟ هذه هي معضلة صناعة القرار في كل مكان والتي لا يعيها رجل الشارع العادي البسيط. إنها أثقال يحملها المسؤولون وفي النهاية لكل قرار تبعات على كافة المستويات. أنا شخصيا أميل إلى البدء بحل المشكلات الأخرى (وتحت "الأخرى" أضع عشرين خطا) التي يعاني منها المواطن والتي تفرز كل ما نراه من سلبيات حولنا. أنا ألوم تلك الأجزاء من ثقافتنا التي تجعلنا اليوم ندفع بالتقسيط من مخصصات الأجيال القادمة. أنا أرى أن القرارات القاسية يجب أن توجه لإصلاح هذه الجزئيات من ثقافتنا التي زرعت في نفوس الكثير الاتكالية والعمل الهين والبعد عن الجدية. يجب أن نعيد صياغة أنفسنا وأن نعي جميعا ما هي واجباتنا تجاه بلادنا قبل أن نطالبها بحقوقنا. الطريق طويلة... لكني ما زلت أرى الأمل في حكمة المسؤولين في بلادنا في هذا الزمن الصعب.