العربية

111

180 ألف وظيفة شاغرة.. التعليم والتدريب مربط الفرس




نشرت مؤخرا صحيفة الوطن خبرا مفاده أن عددا من أعضاء مجلس الشورى وجهوا انتقادات واسعة لتقرير وزارة الخدمة المدنية للعام المالي 1428/1429. سبب هذه الانتقادات وجود حوالي 180 ألف وظيفة شاغرة ("الوطن" 16 يونيو 2009 العدد 3182). موضوع مقالتي اليوم ليس للدفاع عن وزارة الخدمة المدنية فهو جهاز حكومي مثل غيره من الأجهزة الحكومية التي تعاني من سطوة وتكالب العديد من عوامل البنية التنظيمية والبشرية التي قصرنا في التعامل معها تخطيطا وتنظيما وتنفيذا ومتابعة. ولقد أحسنت الدولة صنعا بتبني نظم الحكومة الإلكترونية لفك الاختناقات التي تعاني منها الأجهزة الحكومية.
الخبر أعلاه تفاعل معه القراء في موقع الصحيفة حتى زادوا عن الـ 100 معظمهم قاموا باستغلال المساحة المحدودة لبث معاناتهم الشخصية وسخطهم على وزارة الخدمة المدنية التي ينظر إليها الكثيرون منا على أنها مصدر تعاستهم. ورغم أن الأغلبية الساحقة من أصحاب التعليقات لم يصرحوا بأسمائم الحقيقية إلا أنها تعكس حالة اليأس والإحباط التي أصابت كاتبيها. هذه التعليقات للأسف الشديد تعكس في أحد جوانبها الاختلاف الكبير بين توجه الدولة لتشكيل مواطن متعلم ومثقف قادر على مواجهة المنافسة في سوق العمل وبين توجهات المواطن الذي ما زال يرغب في الاتكاء على الدولة في كل مناحي حياته.
التعليقات التي وردت على موقع الصحيفة تعكس وعيا متدنيا بدور الدولة الحديثة في حياة المجتمعات وكأن أجهزتها الحكومية لم تنشأ لتقديم الخدمة الجيدة للجمهور وإنما مكان يتجمع فيه كل من لا يجد عملا. التعليقات أيضا كتبت بأسلوب عامي فيه كثير من التشنج وسطحية التفكير وركاكة التعبير وسوء استخدام المفردات. كذلك انجرفت معظم التعليقات نحو المصلحة الخاصة لأصحابها واستخدمت أساليب الاستجداء.
هذه التعليقات، بلا شك، تجعلنا نتساءل عن السبب الذي دفع هؤلاء للتعليق على موقع الصحيفة. مربط الفرس لهذه المشكلة، في نظري، هو في عدم قدرتنا على تأهيلهم بالشكل المناسب، لأننا لو نجحنا في تأهيلهم لما وجدت هذه النسب العالية من البطالة بيننا.
لم تتضافر أجهزة الحكومة بشكل متناسق لضمان جودة مخرجاتها. الأجهزة الحكومية على كافة مستوياتها واختصاصاتها (وبالذات قطاعات التعليم) لم تنجح في صياغة وتشكيل المواطن القادر على التفاعل الإيجابي مع بيئته. قطاع التعليم لم يقم بدوره كما يجب في تشكيل الطالب ليكون عنصرا تنافسيا مع مجالات التوظيف المختلفة. التعليم العالي أيضا لم يتفاعل مع نتاج ومخرجات التعليم العام. اليوم يتخرج الطالب من الجامعة تنقصه مهارات عديدة لم يكتسبها في الجامعة. يدخل الطالب إلى الجامعة ليتعلم... لكن يجد نفسه في وضع يحتم عليه تحسين مهاراته في كيفية اصطياد الدرجات العالية وبأقل جهد ممكن. يتعلم من أقرانه الطلاب كيف يبهر أستاذه ويكون انطباعا جيدا عنه يؤهله لاصطياد الدرجات. إذا حضر المحاضرة فإن أفضل استراتيجية له هي الإيحاء للأستاذ بأنه مستوعب للمحاضرة. يتعلم كيف يبرر تغيبه عن المحاضرات ويفحم أستاذه (أحد الطلاب تغيب كثيرا وكان عذره أن زوجته قد لبسها جني وحاولت طعنه وهو نائم بالسكين). لا أحد اليوم يذهب لمكتب أستاذه ليسأل عن شيء عصي عليه فهمه في المحاضرة، بل لإقناع الأستاذ بظروفه البائسة التي تستوجب من الأستاذ إعطاءه درجة عالية ليرفع معدله. لا يزور الطالب أستاذه في بداية الفصل الدراسي ليشرح له كل ذلك بل في نهاية الفصل الدراسي. أسئلة أغلب الطلبة مكررة وكلها تدور حول المحذوف من المنهج وطبيعة الامتحان وهل هي تحريرية أم أسلوب الصح والخطأ.
في نهاية المطاف الخريج الجامعي لم يتعلم من بيئة التعليم إلا "الانتهازية" التي تسكن شخصيتة وتصبح بعد تخرجه جزءا من نمط شخصيته في كل مناحي حياته. التوجهات "الانتهازية" لدى الطالب لم تنبع من فراغ وإنما هي ردود فعل متشنجة لبيئة تعليمية تشكو الكثير من القصور والكل مسؤول... الأستاذ والطالب والمنهج والفصل الدراسي. بيئة تعليمية أقل ما يقال عنها أنها تعاني من عدم قدرتها على تهيئة الأجواء المناسبة للتعلم. 180 ألف وظيفة شاغرة لم تشغل، في نظري، لأن الأجهزة الحكومية بالأمس ليست الأجهزة الحكومية اليوم. اليوم، ومع التطور التقني فيها، الكثير من خطوات التقديم للوظائف وطرق شغلها اختلف عن السابق. حيث بدأت تضيق الخناق على المتقدمين للتأكد من صلاحيتهم للعمل في ظل الأعداد الكبيرة المتقدمة... فهناك لجان مقابلة شخصية وعملية مفاضلات بين المتقدمين وقد أصبح التنافس على الوظائف علنيا وأكثر شفافية وإن كانت الضغوط الاجتماعية مازالت تلعب دورها من حيث الواسطة إلا أنه قد تم تحجيمها بشكل كبير بعد دخول التقنية والحكومة الإلكترونية على الخط. نسبة كبيرة من الوظائف الشاغرة لا يمكن تعيين شخص فيها بمجرد أن لديه شهادة. هناك تجهيزات عالية الدقة كلفت الدولة عشرات الملايين ولا يمكن تركها بين يدي شخص غير مدرب على تشغيلها. ولعل هذا هو سبب استمرار أجهزة الحكومة في المحافظة على أعداد (مازالت غير قليلة) من غير السعوديين في بعض قطاعاتها. الكثير من هؤلاء تحت مسميات وظيفية هامشية لكنهم يقومون بأعمال من الصعب على حديثي التخرج القيام بها. هنا نقول إننا أهملنا كثيرا في إعادة تأهيل موظفينا ويؤكد ذلك ما جاء في تقرير وزارة الخدمة المدنية كما ذكرت الصحيفة على لسان أحد أعضاء مجلس الشورى "أن 3000 موظف حضروا دورات تدريبية من أصل مليون موظف في القطاع الحكومي".