العربية

111

هل تستطيع الحكومة الإلكترونية الانتصار في مواجهة الفساد؟



نقرأ كل يوم في صحافتنا عن التقدم الذي أحرزته الأجهزة الحكومية في مجال تقديم الخدمات للمواطنين عبر شبكة الإنترنت. بالطبع تختلف الأجهزة الحكومية في درجة تقدمها في هذا المجال ودرجة استعدادها وجاهزيتها لولوج عصر جديد يمكن المواطن والمقيم ورجل الأعمال والمستثمر في الداخل والخارج من الحصول على مبتغاه عبر الشبكة الإلكترونية. والحق يقال بأن الأجهزة الحكومية قد مارست الكثير من الجهود لتحفيز المجتمع لاستخدام أجهزة الحاسوب والتعلم على منافعها في مجال الحصول على الخدمات بدلا من الوقوف في صفوف الطوابير. كذلك أسهم قطاع البنوك وغيره من القطاعات الخاصة في مجال تحويل المراجع العادي إلى مراجع إلكتروني ينفذ كافة عملياته دون الرجوع إلى جهة الخدمة.

ورغم أن هذا التحول إلى الشبكة الإلكترونية قد قلص كثيراً من الممارسات السلبية لموظفي الدولة للحصول على خدمة أو منفعة أو رشوة، إلا أن الكثير يعتقد بأن التطبيق الشامل للحكومة الإلكترونية سيقضي على الفساد في بلادنا. حيال هذا الاعتقاد أقول إنه علينا أن ندرك أن الفساد الذي انتشر إنما وجد أرضية خصبة نتجت عن تفاعل عوامل عديدة أهمها: أولا، بعض الأنظمة والقوانين والإجراءات القديمة والمقيدة للحركة والتي تعمل في إطارها جميع الأجهزة الحكومية والتي تمت صياغتها بشكل يحفظ حقوق وأملاك الدولة لكن في الوقت نفسه افترضت سوء الظن في الموظف الحكومي. ثانيا، خصائص مجتمع يعطي قيمة وأهمية عليا لانتماءاته لقبيلته ولمدينته ولقريته ولجيرانه ولجماعته ولأصدقائه. تفاعل هذين العاملين مع بعضهما البعض، في نظري الشخصي، دفع الكثيرين من المديرين والموظفين إلى استغلال الثغرات الموجودة في الأنظمة والقوانين والإجراءات وتسخيرها لخدمة فئة أو فئات محدودة ضاربين بالأهداف الرئيسية التي من ورائها أنشئت هذه الأنظمة عرض الحائط. ولهذا السبب يشتكي الكثيرون من أفراد هذا المجتمع من الواسطة والمحاباة والتحيز سواء في التعيين والاختيار وترسية الأعمال الحكومية وغيرها.

حيال ذلك شددت الدولة من قبضة أنظمتها وإجراءاتها لمنع انتشار مثل هذه الممارسات وجاء استخدام الخدمات الإلكترونية كمنقذ يساند جهود الدولة في محاربة الفساد. واليوم نشهد بدايات عصر اندماج الحاسوب وأجهزة الاتصالات الحديثة والكاميرات في شبكات إلكترونية في منظومة غاية في التعقيد تهدف للقيام بأعمال الحكومة والقطاع الخاص وتوفير الخدمات بكافة أنواعها وأشكالها للمجتمع. اليوم نرى، على سبيل المثال لا الحصر، التقديم في الجامعات وقد تربع مكانة عالية من الشفافية بين الخدمات ليبرهن تقليص بل انهيار الواسطة والمحاباة وتفضيل متقدم على آخر إلا بقدراته العلمية. لم تصل الجامعات إلى هذا النجاح إلا بعد جهد كبير وتمعن في الخطوات التفصيلية الواجب اتخاذها ليتم ميكنتها عبر الحاسوب. صحيح أن الجامعات لم تقض تماما على كافة العيوب لكن أيامنا هذه أفضل بكثير من تلك التي كان يقبل فيها من حصل على 70% من درجات الثانوية ويلقى خارجا من حصل على 90%.

لكن هل نتفاءل بهذا الضيف الجديد (الحكومة الإلكترونية) في حل مشاكلنا مع الفساد. جوابي أن التفاؤل مطلوب ... لكن الواقع يشير إلى أن أمامنا طريقاً طويلاً أكثر من شاق لقمع "الثقافة البيروقراطية" التي تجذرت في المديرين والموظفين. هذه الثقافة هي التي تغذي وترضع الفساد المنتشر وأصبحت نمطا من التفكير العنيد والمقاوم والمستمر تجاه كافة الواجبات والمهام الرئيسية التي يقوم بها كل جهاز حكومي. هذه الثقافة لم تأت من فراغ وإنما تكونت من مزيج من المعايير المهنية التي يلتزم بها العاملون والضغوط التي يعيشها العاملون جراء مصالح الجماعات داخل وخارج التنظيم إضافة إلى الضرورات التي تواجه المسؤولين والتي تستوجب إباحة بعض المحظورات.

هذه الثقافة، في نظري، لن يقمعها إلا الاهتمام بالعنصر البشري الذي أهملناه لفترة طويلة. العنصر البشري يشكو اليوم عدم القدرة على التكيف مع متطلبات حياته الكريمة، الأنظمة والقوانين تمت صياغتها بشكل رقابي يثير الهلع والخوف في نفوس العاملين من الخطأ. تدريب العنصر البشري المعتمد حاليا في الحكومة لن تكون مخرجاته إلا زيادة الطين بلة. يجب أن ننظر إلى "الإنسان" في العنصر البشري ... "إنسان" له أحلام وتطلعات وآمال لنفسه ولأولاده. وإن أصررنا على غير ذلك فإن النجاح المحدود الذي تحقق من وراء الحكومة الإلكترونية لن يتفاعل مع متطلبات النجاحات التالية ... النجاحات التالية هي الأصعب.