
لاشك أن مواجهة تحدي تطوير نظام تعليمي وتربوي يساعد في الوصول إلى القرارات السليمة أستلزم من الدولة بذل الكثير لإيجاده. مثل هذا النظام يفترض أن يتحمل مسؤوليته لتخريج أجيال قادرة على التعامل مع التحديات المستقبلية التي لا تعترف بأنصاف الحلول لاسيما وأننا نعيش في عصر صعب يختلف كثيرا عن بقية العصور التي ألفناها. فبالرغم من كل الجامعات التي أوجدتها الدولة وبالرغم من الميزانيات الضخمة التي تخصص لها (والتي قدرت في فترة الخطة الخمسية السادسة بحوالي 35 مليار ريال) يشير بعض المختصين إلى قيام الجامعات بقبول أكبر عدد ممكن من الطلاب بغض النظر عن الطاقة الإستيعابية للجامعة في وقت تبتلع فيه مرتبات أعضاء هيئة التدريس والموظفين الجزء الأكبر من ميزانية الجامعات.
هذا الوضع يبدوا أنه سيزيد من تهميش الطالب الذي يشكو حاليا من علاقة سلطوية بينه من جهة وبين أنظمة الجامعة وبعض الأساتذة من جهة أخرى والتي نتجت بسبب زيادة أعداد الطلاب في كليات لم يكن للطالب دور في إختيارها. خططنا التنموية تتحدث دوما عن أعداد المقاعد الجامعية وأعداد المتخرجين ... وفي المقابل نرى كل يوم حالات غريبة عن طلاب أنخرطوا في تخصصات لايرغبوها وتدهورت حالتهم النفسية وتغيبهم عن المحاضرات وضعفهم أكاديميا وتسربهم من الجامعة ... ولست هنا لأسرد سلبيات التسرب من الجامعة من أمور ليست بخافية علينا ناهيك عن التكلفة التي تكلفتها الدولة للمقعد الجامعي الذي شغله هذا الطالب لفترة من الزمن.
أذكر تلك الأيام التي دخلت فيها الجامعة... دخلنا جميعا التخصصات التي أردناها.... كانت معنوياتنا عالية للغاية ... كان كل أستاذ فيها يعرف الطلاب حق المعرفة وكان يساعدهم في حل مشاكلهم، حتى الشخصية منها.... كانت الفصول تحوي أعدادا قليلة من الطلاب... كان التحصيل العلمي محور الإهتمام بالرغم من ضعف الإمكانات. تحولت بعد ذلك جامعتي وبقية جامعات المملكة إلى هذه الصروح الضخمة التي نفاخر بأعداد طلبتها وكلياتها ومعاملها... لكن أشياء كثيرة فقدناها مع مرور الزمن... تداخلت عوامل كثيرة لتققذف في النهاية إلى هذه الجامعات أعدادا كبيرة من خريجي الثانوية... ولأن لكل فعل رد فعل، قامت الجامعات بتصميم العديد من الآليات التي تضمن جودة التعليم.... ولأن الجامعة تنظيم شأنه شأن كل تنظيم يعمل لمصلحة أهدافه تراكمت الآليات التي وضعتها الجامعة بشكل أوقع نسبة لايستهان بها من الطلاب في خانة لا يحسد عليها.
عندما يوضع الطالب في تخصص لايرغبه ويعطى جدولا دراسيا صارما للفصل الأول يشمل مواد دراسية عامة مثل الثقافة الإسلامية واللغة العربية إضافة إلى مواد تخص كليته التي تم تسكينه فيها، فإن نتيجة هذا الوضع قد تكون مقبولة... لكن أن تتسم مجمل مواد الفصل الأول بعدد كبير من الطلاب وبهيكلة متشددة لا تتناسب مع سن وظروف الطالب المستجد يجعل إحتمالات رسوبه وليس فقط تدني معدله كبيرة.
في نظري أن الطالب المستجد للجامعة له ظروف وإحتياجات خاصة تستوجب منا النظر إليها وتعديل الآليات التي أوجدناها حتى لا نخسر إستثمارنا في هؤلاء الطلبة المستجدين. الطالب الجامعي المستجد له ظروفه التي يجب أن نستوعبها بطريقة تجعله يقترب من الجامعة ويستوعب الدراسة الجامعية أكثر فأكثر. إن الطريقة التي تعامل فيها الأنظمة والآليات الحالية الطالب المستجد تضعه في خانة لم نعهدها نحن عندما كنا طلبة في الجامعة ولا نود أن نرى أبناؤنا تتقاذفهم الأنظمة واللوائح ودهاليز البيروقراطية.
الجامعات الغربية لم تترك فرصة لتحسين التعليم ووسائله إلا وأخذت بها... التعليم عندهم حاليا تجاوز قاعات المحاضرات إلى إكساب الطالب مهارة "التعلم" والتي من خلالها يستطيع التركيز على مايريده هو لمستقبله. عندما نختار التخصص لطالب جامعي فنحن نؤكد ونكرس وصايتنا عليه وعلى مستقبله. كيف نريد لهذا الجيل أن يستلم منا راية المستقبل ونحن نحرمه من أبسط أشكال المشاركة في تحديد مصيره.
الكثير ممن رمتهم الظروف في أحضان هذه الأنظمة والإجراءت الجامعية أصبح شغلهم الشاغل ليس تحصيل العلم ولكن صرف الجهد والوقت في الإلتفاف حول هذه الظروف والتخرج من الجامعة بأي شكل من الأشكال. المشكلة في النهاية، بالنسبة لكثير من الطلبة، لا تكمن في التخرج لأن الإنسان العادي لديه قدرة عجيبة في التكيف مع بيئته.... المشكلة في الهدر التعليمي وهذا الضعف الأكاديمي الذي تخرج به البعض ثم المهنة التي سيمتهنها هذا الطالب بعد تخرجه ثم قدرته على التأقلم مع المهنة والإحساس بالولاء للمهنة والرضا عما أنجزه في حياته والمعوقات التي صادفها والتي هدمت معنوياته ونفسيته وجعلته غير قادر على الإنسجام مع زمنه وجعلته ممزقا ومرتبكا مع واقعه.