العربية

111

الأستاذ الجامعي وبرجه العاجي

كثير من الناس يتهمون أساتذة الجامعات بأنهم يجلسون في أبراج عاجية بعيدين عن بقية شرائح المجتمع. مصطلح "البرج العاجي" دفعني للبحث عنه في شبكة الإنترنت التي أصبحت ملاذا تقوقعيا لكثير منا. وجدت أن هذا المفهوم قد ابتدعه شاعر وناقد فرنسي يدعى "سانت بيف" في قصيدة له نشرت في عام 1837 واستخدم هذا المصطلح ليعكس انعزال ووحدة الفنان أو الفيلسوف عما يحدث من مشاغل ومشكلات على أرض الواقع. 

أنا لا أنفي صفة الانعزال عن أستاذ الجامعة، ولكن هذا الانعزال في نظري له مسببات في بلادنا تختلف عن المجتمعات الأخرى. أقول إن كثيرا من أساتذة الجامعات في بلادنا لم يختاروا أن ينعزلوا في هذه الأبراج طواعية، وليس هذا للدفاع عنهم. المسببات كثيرة وسأتحدث عن واحدة منها. إنهم - في نظري المتواضع - يدفعون ضريبة ما تلقوه من علوم أثرت على طريقة تفكيرهم وتحليلهم للأمور من حولهم. مكثوا سنوات عديدة في الغربة بين دفات الكتب غير عالمين بالصدمة التي ستحدث لهم عندما ينتقلون إلى واقع مجتمعاتهم.
معظم أساتذة الجامعات اليوم قد درسوا في خارج المملكة وبالذات في الولايات المتحدة وأوروبا. مجتمعات هذه الدول قد مرت بها عشرات ومئات السنوات من العمل والجهد الجاد والتنظيم والإدارة والتقنية حتى بلغوا ما بلغوه من تقدم لم تستطع حياله مجتمعاتنا النامية إلا أخذ وتبني كل تقنياتهم. الشريحة التي تعي تفاصيل ومضامين التحولات المحلية والعالمية في كل صغيرة وكبيرة هي شريحة أساتذة الجامعة كل بحكم خبرته وتخصصه. أعداد كبرى من شرائح المجتمع الباقية لا تعبأ بقضايا المجتمع، وأغلبهم يتحدث عن التقدم الموجود في بلاد الغرب دون أن يرهق فكره بالأسباب التي جعلت الغرب على ما هم عليه ونحن على ما نحن عليه.
أستاذ الجامعة - كل بحكم خبرته وتخصصه – الوحيد الذي يعي مضامين هموم مجتمعه. أستاذ الاقتصاد مثلا على علم بتفاصيل ظروفنا المحلية وأسباب حالات الإشكالات الاقتصادية التي نعيشها، وكيفية معالجتها وكم من الوقت تستغرق لتصحيح الأوضاع.. وأستاذ الإدارة يعلم تأثير المحسوبيات والواسطة على النظام الإداري والمجتمع بصفة عامة. كذلك أصحاب التخصصات الأخرى كل شخص يستطيع أن يخوض في تخصصه الذي يعرفه. أنا لست متخصصا في العقيدة أو الحديث أو الأدب العربي أو الأميركي أو تصميم الكباري أو مسارات القطارات أو إشارات المرور أو تصريف مياه السيول أو أسباب انقراض الحشرات أو طرق القضاء على الأمراض أو التخلص من عوادم السيارات أو إعادة استخدام البلاستيك. العلوم كثيرة ولها متخصصوها، الذين ـ كما أسلفت ـ على دراية واسعة ويحملون تفاصيل همومها بالنسبة لبلادنا.
معظم القضايا والمشاكل التي نعاني منها تحتاج إلى عدد من الخبراء المتخصصين ولهذا تلجأ الدولة للجامعات مخزون الخبرات للبحث عن حلول، وفي كثير من الأحيان لا تكفي خبراتهم فيطلبون خبرات إضافية خارجية. معظمنا وللأسف الشديد يتحدث عن السلبيات في بلادنا وكأنه متخصص في كل فروع المعرفة غير مدرك لكافة أبعاد كل مشكلة وعلاقتها بالعوامل الأخرى والتي في كثير من الأحيان تكون متجذرة في خصائص وسمات مجتمعنا.
في نظري المتواضع أن هموم معرفة الأشياء على حقيقتها سبب رئيسي للانعزال والتفرغ لما هو مهم لهذا المجتمع، وخاصة عندما يكون البون شاسعا بين "قيم" الأستاذ الجامعي والقيم السائدة في المجتمع.
اليوم أنا موقن أكثر من الأمس بحاجة مجتمعنا للتعمق أكثر في كافة العلوم المتاحة لنا لننهض ببلادنا. الخيرات في بلادنا لا تحصى وما زالت تنتظر من يحسن قطفها. التعليم وحده يرفع الأمم، والأمم المتعلمة لا يخشى عليها، وأمامنا فرص متاحة للتعلم لم تتح لمجتمعات أخرى مثل ما وفرتها الدولة لدينا. أحيانا أتساءل.. أين من يريد أن يتعلم؟ ولا أجد من حولي إلا الباحثين عن ورق الشهادات. يقول المفكر الإداري إيريك هوفر: "في وقت التغيير الجذري القاسي يكون المتعلمون هم من يرثون المستقبل. أما غيرهم فيجدون أنفسهم مستعدين للعيش في عالم لم يعد له وجود".
المصدر:  http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=10794 
صحيفة الوطن:  الثلاثاء  8 مايو  2012