العربية

111

مواردنا البشرية الرخوة



يتسم مجتمعنا بإيجابيات كثيرة من أهمها الحنان والعطف الذي نغدقه على أبنائنا وبناتنا. لكن يبدو لي أن مثل هذه الإيجابيات تخفي وراءها ضررا كبيرا يصعب علينا تحمله. وأرى أن الأمور لا تستوي إلا إذا رافق تعاملنا هذا شيء من الحزم الذي يـُشكل ويصقل شخصية الأبناء. قد يقول قائل إن مثل هذا الشعور لا ينسحب على جميع شرائح المجتمع وأن كثيرا من الأسر تعامل أبناءها بمقدار جيد من الحزم . أقول إن هذا صحيح، لكن ما قد يصلحه البيت تـُفسده البيئة المحيطة بنا بدءا بما ننهله من الزملاء والأقران في المؤسسات التعليمية وما نلمسه من سلوكيات شرائح من المجتمع المقتدرة واحتقارنا لكثير من الأعمال ونظرتنا الدونية لبعض الجنسيات الأخرى التي سخرها الله لخدمة هذا البلد وانتهاء بالوسائل الإعلامية السلبية التي انتشرت بيننا وغيـّرت مدارك الإنسان وجعلته عجينة رخوة لا تميز بين الأمور بالشكل المطلوب.
هناك قصة جميلة ذات مغزى عميق تـُصلح لأن تدعم وضوح فكرتي. تقول القصة.... يـُحكى أن رجلا أطال التحديق في شرنقة عالقة على غصن، ذات فتحة صغيرة من خلالها كانت فراشة تجاهد لدفع جسمها إلى الخارج . فجأة توقفت الفراشة من التعب الشديد عن التقدم، ويبدو أن هذا كان أقصى قدرتها. حينها قرر الرجل مساعدة هذه الفراشة فأخذ مقصاً صغيرا وقام بفتح الشرنقة مما أفسح المجال للفراشة للخروج بسهولة. بعد فترة رأى الرجل أن جسم الفراشة كان مشوهاً وجناحيها منكمشان. ظَلّ ينظر متوقعا في كل لحظة أن تنفرد أجنحة الفراشة وتكبر وتتسع ليستطيع جسمها الطيران. لم يحدث أي من هذا وفي النهاية كان قدر هذه الفراشة أن تمضي بقية حياتها "فراشة كسيحة" عاجزة عن الطيران تزحف بجسم مشوّه وبجناحين منكمشين.
لم يستوعب هذا الرجل الطيب القلب ذو النوايا الحسنة أن الشرنقة المضغوطة وصراع الفراشة للخروج منها، كانا إبداعا من خلق الله لضغط سوائل جسم الفراشة إلى داخل أجنحتها ليكتمل نموها ولتتمكن من الطيران بعد خروجها من الشرنقة.
اليوم ونحن ننظر إلى الموارد البشرية السعودية نجد أن واقع الحال يشير إلى مغزى القصة. المؤشرات الإحصائية (حسب إحصائيات أخيرة لمؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي) تقول ما يلي:
- نسبة البطالة بين أوساط الجامعيين تمثل 36 %.
- تنخفض هذه النسبة بين المتعلمين للمرحلة المتوسطة إلى 26 %.
- هناك حوالي 15 % من المتزوجين عاطلين عن العمل.
باختصار، اليوم نرى جزءا مما زرعناه في السابق... نسبة كبيرة من شبابنا كانت تعيش وهما كبيرا... ترعرعت على الاتكالية... كانت تحسب أن الحياة بعد التخرج ستكون ميسرة وسهلة بفضل قطعة الورق (الشهادة) التي تحصلوا عليها. لم نهيئ أبناءنا لفرضية العيش في عالم لا مكان لأحد فيه سوى الفرد القوي القادر على البقاء. القادر على البقاء في نظري هو الذي يستفيد من الفرص المحيطة به. سؤال واحد فقط أسأله نفسي... في ظل الإمكانات الهائلة للتعليم العالي السعودي، وفي ظل التغييرات والتحسينات التي تطلع بها الجامعات علينا يوميا، كم نسبة طلاب الجامعة الجادين في تحصيل العلم؟
المشاهدات للأسف قاتمة ولا توازي أبدا ما تصرفه الدولة على التعليم الجامعي. وحتى لا أوجه اللوم إلى الطلاب فقط أقول إن الواقع شديد التعقيد والمسببات في نظري تمتد إلى ثقافة المجتمع والنظام التعليمي العام في المملكة. اليوم نسبة كبيرة من شبابنا لا ينخرطون إلا في التخصصات الجامعية السهلة والكثير منهم يريدون الشهادة الجامعية دون أن يبذلوا الجهد المطلوب. أكبر دليل على ذلك ما نشهده في الأسبوع الأول من الدراسة الجامعية في كثير من الكليات عندما يلهث كثير من الطلاب تعبا للتسجيل في شعب دراية محددة نتيجة وجود أستاذ محدد يـُدرسها. الكثير من طلابنا ضيقو الأفق لا يتحملون الصبر على الشدائد ولا يرغبون إلا في الحصول على نتائج سريعة لأعمالهم. الكثير لا يريد أن يسعى للوظيفة ويريد الوظيفة أن تسعى إليه. الكثير لا يقبل إلا براتب مجز لا طاقة لبعض القطاعات الخاصة على دفعه، مما يترك المجال مفتوحا للوافدين لكسب الخبرة قبل الراتب. الكثير يصرخ ويطالب بأمور لا علاقة لها بعالم اليوم... لأنهم في نظري يعيشون في عالم لم يعد له وجود.
إذا كنا أسهمنا جميعا في الماضي وبحسن نية في انتشار "الفراشات الكسيحات" في مجتمعنا فإننا اليوم في مرحلة تغيير جذري وقاس أعتبره من أعظم التحديات التي تواجه مجتمعنا. هذا التحدي يتمثل في إعادة تشكيل وصياغة المواطن ليكون قادرا على التفاعل مع واقعه الحقيقي الذي نرى جميعا ويلاته عبر وسائل الإعلام المتنوعة، وليكون محصنا ضد الانجرار وراء التيارات المختلفة التي تلعب بمقدراته. وهي فرصة ثمينة لتمكين العقل البشري ليأخذ مداه في تشكيل واقع جديد لهذه الأمة تستطيع من خلاله أن ترسم المستقبل الذي يرضي الله عز وجل بدلا من الجلوس في ذيل الأمم.